MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية



فكرة القانون: بين التحديد الشمولي والانحراف الوضعاني

     

أحمد السكسيوي
طالب باحث في علم القانون
ومهتم بالقانون الإداري والمنازعات الإدارية



فكرة القانون: بين التحديد الشمولي والانحراف الوضعاني
  
اضطرت البشرية لخلق أداة اجتماعية توازن بين مصالحها المتضاربة، فكانت صناعة القانون قصد ضبط الإنسان، في جل تعاملاته وسلوكياته المتمظهرة أساسا في علاقات اجتماعية، تتخللها بعض الصراعات والنزاعات، لذلك فالمهمة الأولى للقانون، هو وضع مقياس لسلوك الإنسان بقصد تقييده.

إن تقييد القانون للحرية المطلقة ليس أمرا عنيفا، ولا يمثل إتجاه نحو الإستبداد، إنما هو إتجاه لفكرة الشمولية، أي وضع ضابط شمولي يخضع إليه كل البشر، لا يستثني أحدا، الملاحظة التي يمكن البدا بها أن القانون يهيمن بشكل واضح وهذا ما حاول التعبير عنه الأستاذ "ميشيل تروبير"[1] بقوله أن القانون يتحكم فينا ويضع الضوابط الأساسية في إعمال ردة فعل نحو الفعل البشري، نفس الطرح يؤكده الأستاذ "توني أونوريه" بقوله أن القانون هدفه هو إرساء إطار رسمي من الإلزام[2].

تظهر فكرة الشمول القانوني عند البحث في الأجزاء المتعلقة بالقاعدة القانونية، لذلك تتجلى نظرية الشمول في مايلي:

1) - مدخل تحقيق العدالة (نظرية جون رولز)[3]: إن نظرية جون رولز لها مكانة أساسية في النسق الفكري والقانوني، على إعتبار أن العدالة هي فكرة توحدت عليها الكتابات الفلسفية، منذ الأزل، فكانت مادة خصبة للبحث والتفكر، وإرتبط إرتباطا كبيرا مع فلسفة القانون، لقد كان رولز أكثر الحرصين على تبيان حقيقة العدالة في المجتمع، لأنه مؤمن أن التنظيم الجيد للمجتمع هو المدخل الأساسي للعدالة الناجحة، لذلك فالقانون والقضاء المستقل [4] هما المداخل الممكنة لتحقيق هذا التنظيم المجتمعي العادل

2) تحقيق القانون للأخلاق والمصالح: إن الوظيفة الشمولية الأخرى هي تحقيق الأخلاق لكن هل فعلا القانون يحقق الأخلاق؟، لكن ربما طرح هكذا سؤال يصيب الباحث بنوع من الشك حول مدى أخلاقية القاعدة القانونية، لكن يمكن الجزم أن فكرة القانون في بنائها الأولي بنيت على قيمة أخلاقية، لذلك فالفكرة الشمول تزداد حضورا بفضل التصور الأخلاقي للقانون.
كما أن المصالح هي جزء لا يتجزء من الغرض الأساسي للقانون، فحماية المصالح متطلب مجتمعي، إن أهم مثال على هذا الهدف المهم هو حماية الملكية الخاصة، كمصلحة ضمن المصالح العامة للمجتمع.
المصالح تحمى والأخلاق تبنى في القاعدة القانونية، لكن تبقى الإشكالية في مفهوم الأخلاق الذي يتم تأويله من مرجعية إلى أخرى، لذلك فالقانون الأخلاقي ليس نسقا واحدا أو تكتل ثقافي واحد، بل تختلف الأخلاق من زمن إلى أخر، ومن نظام إجتماعي إلى أخر، النتيجة أن القانون يتباعد بشكل مثير مع الأخلاق على عدة مستويات أهمها: الجزاء والهدف ومن حيث الشدة، القانون هو أداة ضيقة المدى مقارنة مع بالأخلاق.

سؤال يطفو إلى السطح في سياق الحديث هو: هل القانون شمولي أم منحرف؟.
سؤال جدلي، يصيب المرء بالشك والتناقض، ويمكن البداية بملاحظة أساسية أن هنالك حقلين دلاليين يجب الإشارة إليهما قبل البدا بالإجابة وهما، الحقل النظري والذي يمكننا أن نجزم بإن المبادئ القانونية تعرف في هذا المستوى كثافة كبيرة تجعل من القانون وجه للعدالة والإنصاف، والحقل الدلالي الثاني هو الممارسة والتي تجعلنا نشكك في مدى تطبيق المبادئ المثالية للقانون.
إن النزعة المثالية أو يوتيوبيا القانون، تزيد الشرخ مع الواقع، الذي يزداد ظلما قانوني للإنسان، فتعمل اليوتوبيا القانونية على ثلاثة مستويات من الإنحراف:
أولا، اليوتوبيا عبارة عن خيال جامح.
ثانيا، اليوتوبيا بديل عن السلطة القائمة، فكل اليوتوبيات، كائنا ما كانت ضروبها، تحاول أن تمارس السلطة بطريقة مختلفة عما هو قائم في الواقع. وفي مستوى.
 ثالث، أفضل وظائف اليوتوبيا استكشاف الممكن والمحتمل، فوظيفة اليوتوبيا، في نهاية المطاف، وظيفة اللامكان الذي يصبح وجوده ضروريا بوصفه نقيضا ضديا لمكان لا تتوفر فيه شروط العدالة [5].
لكن يزداد الشك في انحراف القانون عند التمعن بشكل معمق في تنزيل القانون، إن هنالك إنحراف واضح في القانون يمكن إجمالها أمران أساسيان:
الانحراف الوضعاني للقانون: إن إنحراف القانون بهاته الطريقة ينصرف إلى طريقة وضع القانون والتي تظهر بشكل منحرف في القانون الوضعي أو ما يسمى بالتيار الوضعي، إن ما يميز التيار الوضعي (أو الوضعانية) بمختلف مدارسه هو موقفه المعادي للمثالية، للعقلانية وللطبيعانية. هو يرفض التجرد الذي يميز الاتجاهات المثالية. كما يرفض مبدأ العالمية وفكرة أن يكون العدل كمفهوم جوهر القانون. يعتبر الوضعيون أنه لا يمكن تناول القانون إلا من زاوية معطيات خارج العقل والطبيعة[6].
لذلك فهو ينحرف عن الغاية الأساسية فتطرح بذلك إشكالية الإبتعاد عن الإنسان والإنصراف في شكلية القانون، ويزداد تعقيد هذا المذهب في الوضعانية الشكلانية التي تعني بصورة عامة أن النظام القانوني في بلد معين وفي زمن معين يتشكل من قواعد قانونية قائمة ويحب احترام وتطبيق هذه القوانين. من غير المفيد إذا الذهاب أبعد من النص القانوني والبحث عن معان أخرى مخفية أو غير واضحة، فلا يجب أن يهتم العامل في القانون إلا بالقاعدة القانونية المرفقة بعقوبة والتي وضعتها السلطات السياسية. لكن الفكرة الأساس المستخلصة من هذا المفهوم هي أن النظام القانوني كامل وتالياً يمكننا إيجاد أي حل لأي نزاع في النصوص القائمة.

انحراف غاية المصلحة العامة في القانون: ثاني أنواع الإنحراف القانوني يتشكل بالأساس عند وضع القاعدة القانونية وتلي بعدها مرحلة التطبيق العملي لهذا القانون، وهنا تظهر أكثر صور الإنحراف والتي عبر عنها العديد من الفلاسفة، فيظهر النهب المشرعن بإسم القانون، كما سماه الأستاذ والفيلسوف فريدريك باستيا بالنهب المشروع بدعوى المصلحة العامة، جاء في أحد أقواله ما يلي:
" أنظر فيما إذا كان القانون يأخُذ من بعض الأشخاص ما يملكون ويعطيه إلى أشخاصٍ آخرين لا تعود ملكيته لهم، أنظر فيما إذا كان القانون ينفع مواطن معينًا على حساب الآخر من خلال فعل ما يعجز المواطن نفسه عن فعله دون ارتكاب جريمة"[7]
وبهذا الوصف الدقيق للنهب المُشرعن)المتصف بالشرعية(، لا نستطيع أن ننكر بأن معظم الأعمال الإدارية، بما فيها أنشطة إداراتنا، ماهي إلا أعمالُ نهب شرعي، أو لأجل حداثة التعبير، ما هي إلا سرقة شرعية، تحث ذريعة المصلحة العامة، وباسم القانون.
لقد درسنا في كلية الحقوق، بأن التمييز بين القانون العام والخاص يتجلى، في خاصية المصلحة العامة وكدا خاصية الدولة باعتبارها ذات سيادة وسلطان، وبذلك فالقانون العام قانون الدولة – السلطة في إطار المصلحة العامة، لكن الإشكال يكمن في تفسير المصلحة العامة تفسيرا سيئا وغير قانوني من أجل تنفيذ المصلحة الخاصة للإدارة، فكثيرا ما ثم إهدار الحقوق الخاصة وحرية المواطنين بدعوى المصلحة العامة، وكما يقول الأستاذ محمد أزغاي:

 " ....المصلحة العامة، مفهوم واسع وغامض يقبل أي تفسير، وبهذا الإتباع لا يمكن أن يرتب نتائج قانونية مضبوطة، لاسيما وأنه يزداد بازدياد دور الدولة، وهذا الغموض هو السبب الرئيسي الذي يفسر كون هذه الفكرة ميدانا خصبا لاستعمال السلطة التقديرية، فقد اعتبر الفقه بأن غموض هذه الفكرة هي من مصلحة الإدارة وأن المصلحة العامة وسيلة للهروب من احترام القانون..."[8]
إن هذا الوصف الذي أعطاه الأستاذ ازغاي لمفهوم المصلحة العامة لوصف دقيق، ونحن نؤيده تأييدا كاملا، ويمكن البرهنة عليه بما قاله فريدريك باستيا[9]، بأن القانون يحاول إعطاء النهب العام للملكيات والحقوق الخاصة من طرف الدولة، الصفة القانونية.
وفي الأخير ففكرة المصلحة العامة هي ضرورية ولا محيد عنها لكن وجب تعريفها وتحديدها تحديدا محكما، ومنع الانحرافات عنها.

 أوجه إنحراف مصلحة القانون:

          
المستوى الأول: المصلحة الخاصة تكون غرضا في العمل الإداري

   ينحرف العمل الإداري عن المصلحة العامة، السبب راجع في كون عدم استحضار الضمير المهني، وكذلك الجري نحو جمع الأموال والثروات.
 جاء في قرار لمحكمة الاستئناف الإدارية بالرباط:
 " وحيث إنه من أجل المصلحة الخاصة يدخل ضمن اختصاص السلطة التقديرية للإدارة التي تتمتع بها، فإن ذلك مشروط بعدم انحراف هذه السلطة "[10] ومتمثل بالأساس التطبيق السليم للمصلحة العامة.
وفي حكم مصري ذهب في نفس الاتجاه بقوله:
  " إن القرار الإداري متى شف عن بواعث تخرج به عن بواعث استهداف الصالح العام المجرد إلى غلة أو إرضاء هوى النفس فإنه يكون منحرفا الجادة مشوبا بإساءة استعمال السلطة " [11]

 المستوى الثاني: تحقيق الانتفاع الشخصي

حينما يصدر رجل السلطة والإدارة قرارا يستهدف منفعة شخصية، تضر بالمواطنين، وهذا مرتبط أساسا بعدم وجود النزاهة والعدالة، كيف يمكننا المنداة بالتحقيق العدالة القضائية ؟، دون الحديث عن أي عدالة في تسيير الإدارات والتي أصبحت وبمرور الوقت قنطرة من أجل كسب الثروات، وهذا إلى جانب الرشوة رأس الفساد الإداري.

 المستوى الثالث: الانتقام في القرار الإداري

 تغليف العمل الإداري، بالانتقام من خلال إصدار قرارات يشوبها التنكيل بموظف أو مواطن، لاختلاف في الرأي أو أمور شخصية يدخلها في القرار المتخذ ...
  وقد جاء في الاجتهاد القضائي المصري، المتمثل في المحكمة الإدارية العليا، مثالا على الانحراف بالانتقام بقولها:
 " إن ملاحقة الجهة الإدارية للطاعن على أثر اعتراضه هو وبعض زملائه(على بعض التنظيمات الإدارية الجديدة) بتوقيع ثلاثة جزاءات عليه في أيام متوالية ثم الامتناع عن ترفيعه (ترقيته) ... ثم نقله إلى وظيفة أدنى، ثم صرفه (طرده) بعد ذلك "[12]

  المستوى الرابع: حالة المحاباة أو تقرب من شخص ذو مال أو نفوذ

  من خلال إصدار قرار إداري لمصلحته، دون أي وجه حق. كمن تقرر السلطة إغلاق محل صغير على حساب ربح تاجر معروف في البلد أو المدينة.

المستوى الخامس: الانحراف عن تطبيق القانون.

وهو الأهم في كل ما ذكرناه سابقا، فغالبا ما تنحرف الإدارة عن سكة المصلحة العامة، عن طريق التحايل على القانون، وبدلك ضرب وجه من أوجه تقييدها، وهو مبدأ المشروعية، سيادة القانون، لكن بصفة عامة، نحن اليوم نعيش عصر "سكيزوفرينيا القانون"[13]، فنطبق القانون على الغرباء والفقراء والضعفاء، لكن لا نطبقه على أنفسنا أو أقربائنا أو أصدقائنا وأصدقاء أصدقائنا...الخ.
 
 
 
 
[1] -  ميشيل تروبير، فلسفة القانون، ترجمة جورج سعد، دار الأنوار لطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2004. ص. 3.
[2]توني أنوريه، أراء في القانون، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، الطبعة الأولى 1998، ص. 8.
[3] - جون رولز، العدالة كإنصاف إعادة صياغة، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2009، ص. 293.
[4]  - JOHN RAWLS, A Theory of Justice, Cambridge, mass : Belknap Press Of  Harvard University Press, 1971, p. 34.
[5] - عبد الله إبراهيم، اليوتوبيا، مقال منشور بجريدة الرياض الموقع الإلكتروني، http://www.alriyadh.com/819173
[6]  - جورج سعد، فلسفة القانون الإقتراح الأولي، الجمعية اللبنانية للفلسفة، الموقع الإلكتروني:
 
http://www.aliphid.com/documents_ar.htm
[7]   فريديرك باستيا، القانون، الأهلية للنشر والتوزيع، المطبعة الأولى 2012. ص: 20.
[8] أزغاي محمد، السلطة التقديرية للإدارة، رسالة لنيل شهادة الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، جامعة محمد الخامس الرباط، كلية الحقوق أكدال، ص 417-418-419.
[9] فريدرك باستيا، القانون، تم نشره وتنسيقه من موقع مصباح الحرية ص: 19.
[10]   قرار محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط، عدد 1299، بتاريخ 19-11-2008، ملف عدد 176-07-5
[11]  مجموعة أحكام محكمة القضاء الإداري السنة الثامنة ص 1461، بند 754
[12]  مجموعة المحكمة العليا، السنة السادسة، ص 1049 بند 133.
[13] وجدت هذا المصطلح أكتر تعبيرا عن حالة انفصام الشخصية القانونية المغربية بالمطالبة بتطبيق القانون على الغير، دونه هو وسطه. 



السبت 27 يونيو 2015

تعليق جديد
Twitter