MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية



تعدد الزوجات بين النص الشرعي و النص التشريعي

     

محمد نعناني
باحث بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق بسطات




 
 
 
تقديم:
 
         لا شك أن موضوع تعدد الزوجات كان و ما يزال من أكثر المواضيع إثارة للنقاش و الجدل بكل ما تحمله الكلمتان من معنى، سواء على المستوى العلمي بكل مكوناته الفقهية و القانونية و القضائية أو الاجتماعي بكل مؤسساته باختلاف أطيافها و مشاربها و توجهاتها، حتى أضحى مثار نقد بل و طعن على تشريعات الأحوال الشخصية و الأسرة في العديد من البلاد الإسلامية.
 
         و الحقيقة أن نظام تعدد الزوجات ليس لصيقا بالشريعة الإسلامية فقط، بل كان سائدا حتى قبل ظهوره لدى شعوب كثيرة متحضرة وغير متحضرة ، مثل الصينيين والهنود والفرس والمصريين القدماء والعبريين والعرب والشعوب الجرمانية والسكسونية التي ينتمي إليها سكان أوربا الشرقية والغربية مثل : ألمانيا والنمسا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا والسويد وانجلترا وبلجيكا وهولندا والنرويج. وما زال هذا النظام منتشراً في الوقت الحاضر في بلاد الهند والصين واليابان وأفريقيا
[1].
 
         و الإسلام لم ينشئ تعدد الزوجات، و إنما نظمه و ضبطه و لم يجعله فرضا لازما على الرجل و لا ألزم المرأة و أهلها بقبول رجل متزوج بغيرها؛ و إنما جاء ليحد له حدودا و يضع له شروطا حيث لم يكن كذلك قبل.
 
و المرجع في نظام التعدد في الإسلام هو الآية الثالثة من سورة النساء التي يقول فيها الله جل و علا : : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)) [النساء 3]. و هي الآية التي تستند إليها جميع التشريعات التي ذهبت إلى تنظيم التعدد على اختلاف فيما بينها من حيث فهم النص و تفسيره و تأصيله.
 
و المغرب كغيره من الدول الإسلامية نظم التعدد في ظهير 22 نونبر 1957 المنظم لأحكام الزواج و الطلاق في الفصلين 30 و 31، و ذلك قبل أن تصدر مدونة الأسرة سنة 2004 و تجعله تحت رقابة القضاء معتبرة إياه استثناء لا يلجأ إليه إلا بعد إثبات مبرره الموضوعي.
 
و كيفما يكن الأمر، فإن التشريع لم يكن يوما من الأيام نقطة نهاية ينتهي إليها الفقه و القضاء دونما أدنى مناقشة أو مراجعة، لاسيما في المواضيع التي تثير الكثير من النقاش العلمي المبني على أسس و دعائم متينة.
 
و موضوع التعدد الذي نظمته مدونة الأسرة في موادها من 40 إلى 46 يحتاج إلى مزيد دراسة تؤسس لوعي موضوعي قائم على التأصيل العلمي يخرج المهتمين و العاملين في المجال القضائي و الحقوقي من مخلفات التأثير النفسي الذي مارسه في فترة من الفترات بعض المعارضين للتعدد و الداعين إلى منعه و الحد منه جملة و تفصيلا.
 
و في سبيل ذلك فإننا سنتناول الموضوع في مبحثين نخصص الأول منهما  للتأصيل العلمي للتعدد من القرآن الكريم و السنة النبوية، لننتقل بعد ذلك في مبحث ثان إلى تناول التعدد في مدونة الأسرة و ما جاءت به من مقتضيات للتطبيق.
 
المبحث الأول: التأصيل العلمي للتعدد من القرآن الكريم و السنة النبوية.
 
         إن الأصول العلمية لتعدد الزوجات تجد مرجعها في القرآن الكريم و السنة النبوية المطهرة في مجموعة من الآيات و الأحاديث و الآثار التي ينبغي التوقف عندها و دراستها دراسة علمية تخضع لأصول الدراسة العلمية المنهجية وفق ما تقتضيه قواعد أصول الفقه باعتباره علم الآلة المعتبر في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
 
المطلب الأول: التأصيل العلمي للتعدد من القرآن الكريم.
 
         كما سبق و أشرنا في بداية هذه الدراسة أن المرجع في التعدد هو الآية الثالثة من سورة النساء التي يقول فيها الله سبحانه و تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)) [النساء 3].

أولا: تفسير الآية:

لقد ورد في تفسير الآية المذكورة عدة أقوال ذكر أبو جعفر بن جرير الطبري طرفا منها في تفسيره جامع البيان في تأويل القرآن ثم قال: " وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: تأويلها:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجورُوا فيه منهن، من واحدة إلى الأربع، فإن خفتم الجورَ في الواحدة أيضًا، فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن".
وإنما قلنا إنّ ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخَلطها بغيرها من الأموال، فقال تعالى ذكره:( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) . ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرّجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرّج في أمر النساء، مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن،  كما عرّفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى، فقال: انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم، ما أبحت لكم منهن وحلّلته، مثنى وثُلاث ورباع، فإن خفتم أيضًا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة، بأن لا تقدروا على إنصافها، فلا تنكحوها، ولكن تسرَّوا من المماليك، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن، لأنهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور.
ففي الكلام -إذ كان المعنى ما قلنا- متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره. وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم، فلا تتزوجوا منهنّ إلا ما أمنتم معه الجور مثنى وثلاث ورباع، وإن خفتم أيضًا في ذلك فواحدة. وإن خفتم في الواحدة، فما ملكت أيمانكم فترك ذكر قوله:"فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء"، بدلالة ما ظهر من قوله تعالى:"فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم".
فإن قال قائل: فأين جواب قوله:"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى"، قيل: قوله"فانكحوا ما طاب لكم"، غير أن المعنى الذي يدل على أن المراد بذلك ما قلنا قوله:"فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا"
[2].
 
         قال القرطبي: " واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) ليس له مفهوم، إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة: اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف.
فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك، وأن حكمها أعم من ذلك."
[3] و قد ذهب القرطبي رحمه الله إلى ما ذهب إليه لئلا يحتج بمفهوم المخالفة أو ما يصطلح عليه المالكية بدليل الخطاب و هو عين ما ذهب إليه ابن العربي المالكي في أحكام القرآن حيث قال عند تطرقه لمسائل هذه الآية : " المسألة الثالثة : دليل الخطاب : وإن اختلف العلماء في القول به ؛ فإن دليل خطاب هذه الآية ساقط بالإجماع ، فإن كل من علم أنه يقسط لليتيمة جاز له أن يتزوج سواها ، كما يجوز ذلك له إذا خاف ألا يقسط "[4].
 
ثانيا: آية التعدد في ميزان أصول الفقه.
 
إن الآية التي سنتناولها في هذه الدراسة الأصولية هي الآية الثالثة من سورة النساء في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)) [النساء 3]. و ذلك لاستنباط حكم التعدد منها.
        
سننطلق في هذا التأصيل من هذه الآية باعتبارها العمدة و الأصل في الباب، و سنحاول تناولها من زاويتين بعدما نظرنا فيها فوجدنا أنها تشتمل على كلمة "فانكحوا"، و كذلك على شرط (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ).

1: الأمر في آية التعدد

و نظرنا في أول الأمر سيتوجه لقوله تعالى " فانكحوا". و أصل الكلمة نكح. جاء في لسان العرب لابن منظور قوله "نكح فلان" امرأة ينكحها نكاحا إذا تزوجها
[5].
         و نحن لما نظرنا إلى قوله تعالى (فانكحوا) علمنا أنه فعل
[6] لأن الفعل كما قال ابن آجروم في آجروميته: و الفعل يعرف بقد و السين و سوف و تاء التأنيث الساكنة[7]. فلو أدخلناها على كلمة "نكح" لقلنا قد نكح، و سينكح، و سوف ينكح، و نكحت و يستقيم الكلام في جميعها فيعرف بذلك أنها فعل. و الفعل إما أن يكون فعل ماض أو مضارع أو أمر، و لما و جدناه أقرب إلى فعل الأمر حاولنا أن نبحث في علامة فعل الأمر لنتبين هل هذا الفعل فعل أمر حقا أم لا، فوجدنا في التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية لمحمد محي الدين عبد الحميد قوله: علامة الفعل الأمر ، وهي دلالته علي الطلبِ مع قبول ياءِ المخاطبة أو نون التوكيد ، نحو " قُمْ " و "اقْعُدْ" و " اكْتُبْ " و " انْظُرْ" فإن هذه الكلمات الأرْبَعَ دَالةٌ علي طلب حصول القيام والقعود والكتابة والنظر ، مع قبولها ياء المخاطبة في نحو : " قُومِي ، واقْعُدِي " أو مع قبولها نون التوكيد في نحو " اكُتُبَنَّ ، وانْظُرَنَّ إلي مَا يَنْفَعُكَ "[8]. و في قوله تعالى (فانكحوا) دلالة على طلب حصول النكاح.
        
وكذلك قوله: الأمر، وهو ما يطلب به حصول شيء بعد زمن التكلم، نحو: " واضرب، وانصر، وافتح، واعلم، واحسب، واكرم "
[9]. ونحن إذا أخذنا مفرد فانكحوا لوجدناه في الأمر كالأمثلة التي ذكرت و هو فانكح وفي الجمع (فانكحوا).
        
و إذا تقرر عندنا أن قوله تعالى(فانكحوا) فعل أمر، انطلقنا إلى تعريف الأمر في أصول الفقه، و النظر فيما يفيده  الأمر و ما يوصل إليه من أحكام شرعية.
        
جاء في الورقات لإمام الحرمين الجويني قوله:
والأمر: استدعاء الفعل بالقول، ممن هو دونه، على سبيل الوجوب تحمل عليه، إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب، أو الإباحة.
 
كما جاء في روضة الناظر لابن قدامة المقدسي قوله:
الأمر: استدعاء الفعل بالقول على  وجه الاستعلاء
[10].
فبالنظر إلى الآية الكريمة و التعريفين وجدنا أنها أمر لاعتبار أن في الآية استدعاء لفعل النكاح بالقول الذي هو كلام الله حقيقة بقوله (فانكحوا) على وجه الاستعلاء، إذ الله هو الآمر لعباده بفعل النكاح.
 
كما قال ابن قدامة: وللأمر صيغة مبينة تدل بمجردها على كونها أمراً إذا تعرت عن القرائن وهي : افعل للحاضر وليفعل للغائب، هذا قول الجمهور
[11].
 
و قول ابن قدامة هذا يؤكد أن قوله تعالى: (فانكحوا ماطاب لكم...) أمر، لقوله و للأمر صيغة مبينة تدل بمجردها على كونها أمرا...و هي: افعل للحاضر فلو أخذنا جمعها لقلنا افعلوا للحاضر، و هي صيغة قوله تعالى (فانكحوا).
 
هذا عن المرحلة الأولى التي هي التحديد و الحسم في كون قوله تعالى (فانكحوا) أمر، ليكون عملنا في المرحلة الثانية و هي الأهم في البحث عما يفيده الأمر؛ هل الوجوب أم الندب أم الإباحة، أم غير ذلك  لنخرج بنتيجة حول حكم التعدد.
 
و حسبنا في هذا البحث في هذه المرحلة أن نفتش في أقوال و قواعد و أصول أهل أصول الفقه الذين هم أهل الصنعة و المتخصصون فيها حول الحكم الذي يفيده الأمر الوارد في الكتاب أو السنة.
و الباحث في هذا الباب يجد أن " الأصل في الأمر الوجوب نص عليه في مواضع وبه قال عامة المالكية وجمهور الفقهاء والشافعي وغيره"
[12].
 
و بالنظر إلى التعريف الذي و ضعه إمام الحرمين الجويني للأمر  نجده يفيد الوجوب إذا لم يدل الدليل على غيره، إذ قال :الأمراستدعاء الفعل بالقول، ممن هو دونه، على سبيل الوجوب. جاء في قرة العين في شرح الورقات للحطاب المالكي: " وقوله: (على سبيل الوجوب) يخرج الآمر على سبيل الندب بأن يجوِّز الترك. واقتضى كلام المصنف أن المندوب ليس مأموراً به..."
[13]
         و قال أبو محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري:" الذي يفهم من الأمر، أن الآمر أراد أن يكون ما أمر، وألزم المأمور ذلك الأمر، وقال بعض الحنفيين، وبعض المالكيين، وبعض الشافعيين: إن أوامر القرآن والسنن ونواهيهما على الوقف حتى يقوم دليل على حملها، إما على وجوب في العمل أو في التحريم، وإما على ندب، وإما على إباحة، وإما على كراهة، وذهب قوم من الطوائف التي ذكرنا، وجميع أصحاب الظاهر إلى القول: بأن كل ذلك على الوجوب في التحريم أو الفعل حتى يقوم دليل على صرف شيء من ذلك إلى ندب، أو كراهة، أو إباحة فتصير إليه. قال علي( أي ابن حزم): وهذا هو الذي لا يجوز غيره."[14]
        
كما و جدنا في تفسير الخازن لأبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي قوله: و استدلت الظاهرية بهذه الآية – الآية الثالثة من سورة النساء – على و جوب النكاح، قالوا لأن قوله فانكحوا أمر و الأمر للوجوب.       
        
إلا أن القول بأن الأمر يفيد الوجوب ليس على إطلاقه فقد جاء في المسودة في أصول الفقه لآل تيمية قولهم:" التحقيق فى مسألة أمر الندب مع قولنا أن الأمر المطلق يفيد الإيجاب أن يقال الأمر المطلق لا يكون إلا إيجابا وأما المندوب إليه فهو مأمور به أمرا مقيدا لا مطلقا فيدخل فى مطلق الأمر لا فى الأمر المطلق."
[15]
        
و ورد في الورقات في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني عند تحديده لصيغة الأمر قوله:" و صيغته افعل و هي عند الإطلاق و التجرد عن القرينة تحمل عليه، إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة."
[16]
        
و ما نختم به الكلام في هذا الباب ما سطره ابن قدامة رحمه الله في روضته وما علق به عليه محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في مذكرته.
        
قال ابن قدامة:" إذا ورد الأمر متجردا عن القرائن اقتضى الوجوب في قول الفقهاء..."
 
         قال محمد الأمين الشنقيطي:" خلاصة ما ذكره المؤلف في هذا المبحث أربعة أقوال:

1- أن الصيغة المذكورة للوجوب .
2- أنها للإباحة ، وحجته أنا رأينا الأمر قد يأتي لها كقوله : (( فاصطادوا )) فنحمله على أدني الدرجات وهو الإباحة .
3- أنها للندب ، وحجته أن صيغة (( افعل )) تقتضي طلب الفعل وأدني درجات الطلب الندب فنحمله عليه .
4- الوقف حتى يرد الدليل ببيانه.
 
والحق أنها للوجوب إلا بدليل صارف عنه لقيام الأدلة ، كقوله (( فليحذر الذين يخالفون عن أمره )) إلى قوله : (( عذاب أليم )) فالتحذير من الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر يدل على أنه للوجوب .
 
وقوله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، فإنه جعل أمر الله ورسوله مانعاً من الاختيار وذلك دليل الوجوب . وقوله : (( وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون )) فهو ذم على ترك امتثال الأمر بالركوع وهو دليل الوجوب وقوله : (( ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك )) فقرعه على مخالفة الأمر . وهو دليل الوجوب وقوله : (( أفعصيت أمري )) فهو دليل على أن مخالفة الأمر معصية . وذلك دليل الوجوب . وقوله : (( لا يعصون الله ما أمرهم )) إلى غير ذلك من أدلة الكتاب والسنة . ولا خلاف بين أهل اللسان العربي أن السيد لو قال لعبده افعل فلم يمتثل فأدبه لأنه عصاه أن ذلك واقع موقعه مفهوم من نفس صيغة الأمر . وأشار في المراقي إلى الأقوال في هذه المسألة بقوله :

و افعل لدى الأكثر للوجوب     و قيل للندب أو المطلوب
و قيل للوجوب أمر الـرب      و أمر من أرسله للنـدب

والحق أن دليل اقتضاء ((افعل )) للوجوب الشرع واللغة كما ذكرنا وقيل العقل كما أشار إليه في المراقي بقوله :
           و مفهم الوجوب يدري الشرع    أو الحجا أو المفيد الوضع
[17]
و إذا كان الحال كذلك أي أن الأمر خاصة إذا جاء بصيغة افعل يفيد الوجوب، و أن صيغة افعل تقتضي الطلب و أدنى درجات الطلب الندب، تبين لنا أن الأمر على هذه الحال إما أن يفيد الوجوب و إما أن يفيد الندب و هو أقل المراتب.
 
إذا تقرر عندنا هذا مع ما تقرر عندنا سابقا من أن قوله تعالى(فانكحوا) أمر جاء بصيغة افعل في الجمع تبين لنا أن أقل ما يحمل عليه قوله تعالى(فانكحوا) هو الندب الذي هو أقل مراتب الطلب، هذا مع العلم بأن الظاهرية استدلوا بنفس الآية على وجوب النكاح حاملين في ذلك الأمر على الوجوب.
 
2: الشرط في آية التعدد
 
         بعد هذا ننتقل إلى قوله تعالى: (مثنى و ثلاث و رباع) فالله عز و جل صدر الباب بالتعدد الذي هو الأصل: مثنى و ثلاث و رباع و حسبنا في ذلك ما ورد في تفسير الآية و لا نريد أن نطيل فنقتصر فقط على ما قاله ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: "أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن، إن شاء أحدكم ثنتين، و إن شاء ثلاثا و إن شاء أربعا
[18]". فقدم الأصل الذي هو التعدد و أخر الفرع أو الاستثناء الذي هو الاقتصار على واحدة. و هذا الاقتصار على واحدة مشروط بشرط و هو الذي جاء في قوله تعالى:(فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم).
 
         و لما كان الأمر كذلك وجب علينا أن نقف قليلا مع الشرط عند الأصوليين لنبين أحكامه.
        
جاء في مذكرة أصول الفقه:" و الشرط الشرعي في الاصطلاح عند أهل الأصول هو ما لا يلزم من وجوده لذاته و جود و لا عدم، و لكنه يلزم من عدمه عدم المشروط. "
[19]
        
و قال ابن قدامة: و مما يعتبر للحكم الشرط و هو ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم كالإحصان مع الرجم و الحول مع الزكاة. فالشرط ما لا يوجد المشروط مع عدمه.
         و قال أيضا: و قد تقرر بين الفقهاء أن انتفاء الشرط علامة على عدم المشروط فإنه ينتفي بانتفائه.
 
إذن إذا انتفى الشرط انتفى المشروط، و الشرط في الآية: (فإن خفتم ألا تعدلوا) و المشروط هو الاقتصار على واحدة في قوله تعالى: (فواحدة أو ما ملكت أيمانكم).
        
فإذا انتفى الشرط و هو الخوف من عدم العدل بتحقق ضده و هو استطاعة العدل – و هو مقدور عليه كما جاء في التفاسير، أنه هو العدل المادي و ليس الميل القلبي – انتفى المشروط و هو الاقتصار على واحدة، و إذا انتفى الاقتصار على واحدة لم يبق إلا العود و العود أحمد إلى  الأصل في نكاح ما طاب من النساء مثنى و ثلاث و رباع.
 
و هنا قد يقول قائل إن الله تعالى نفى إمكانية تحقق العدل في قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129))[النساء 129]. قال ابن كثير رحمه الله: " أي: لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن حصل القسْم الصوري: ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس، وعُبَيْدة السَّلْمَاني، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك بن مزاحم"
[20]. و هذا التفاوت في الميل القلبي متجاوز ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث حمَّاد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني: القلب. قال الإمام أبو زهرة: " و بهذا وفق العلماء بين العدل المطلوب في هذه الآية و العدل المنفي في قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ)، فإن العدل المنفي هناك هو العدل القلبي، و لذلك لم يطلبه سبحانه و تعالى، و دل على أنه لم يطلبه بقوله تعالى: " وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ " فهو أجاز ألا يكون، و لكن طلب أن يحرص و لا يفرط و بذلك تتلاقى الآيتان، لأن العدل في الآية التي طلبته، غيره في الآية التي نفته، و أكدت نفيه"اهـ[21].

المطلب الثاني: تأصيل التعدد من السنة النبوية
 
         إن أول ما يبدأ به الباحث في السنة النبوية و في مصادرها، هو كتاب صحيح البخاري رحمه الله. إذ هو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى بإجماع الأمة.
 
         و باعتبار أن بحثنا هو فيما يتعلق بالنكاح، كان أول ما توجهنا إليه أولا هو كتاب النكاح في صحيح البخاري. فوجدنا أن هذا الكتاب – أي كتاب النكاح – قد صدره الإمام البخاري بباب عنون له بقوله:" باب الترغيب في النكاح لقوله تعالى:(فانكحوا ما طاب لكم من النساء). و قد جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ بن حجر:" وَوَجْه الِاسْتِدْلَال أَنَّهَا صِيغَة أَمْر تَقْتَضِي الطَّلَب ، وَأَقَلّ دَرَجَاته النَّدْب فَثَبَتَ التَّرْغِيب"
[22].
 
         فالملاحظ أن البخاري رحمه الله افتتح كتاب النكاح بباب الترغيب فيه و استدل بالآية الثالثة من سورة النساء و هي التي تناولناها آنفا بالتفسير و التأصيل، كما شرح الحافظ ابن حجر ما بوب البخاري بنفس ما خلصنا إليه سابقا بقوله:" وَوَجْه الِاسْتِدْلَال أَنَّهَا صِيغَة أَمْر تَقْتَضِي الطَّلَب ، وَأَقَلّ دَرَجَاته النَّدْب فَثَبَتَ التَّرْغِيب".
         ثم روى الإمام البخاري رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال: آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال: آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال:" أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
[23]
 
قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض ، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره ، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني ، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه ، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم وينام ليتقوى على القيام ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل
[24].
 
         و غاية النكاح كما يستفاد من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله كسر الشهوة، و إعفاف النفس و أعظمها تكثير النسل و كلها مقاصد تتحقق بالتعدد.
        
فعن أبي هريرة رضي اله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:"انكحوا فإني مكاثر بكم"
[25].
        
و عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ولا تكونوا كرهبانية النصارى"
[26].
 
         و عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" النكاح سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصيام فإن الصوم له وجاء"
[27].
         و نحن إذ أوردنا هذه الأحاديث، إنما أوردناها لتبيين حث  النبي صلى الله عليه و سلم على تكثير النسل، والامتثال لهذا الحث من النبي صلى الله عليه و سلم و لأمره على أكمل وجه و بأكبر قدر من البنين و البنات، لا سبيل إليه إلا بامتثال ما ندبنا الله عز و جل إليه من نكاح المثنى و الثلاث و الرباع.
 
و بوب البخاري رحمه الله بابا آخر عنون له " بباب كثرة النساء"، قال الحافظ بن حجر في الفتح: يعني لمن قدر على العدل بينهن
[28].
 
ثم روى عن عطاء قال:" قَالَ حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلَا تُزَعْزِعُوهَا وَلَا تُزَلْزِلُوهَا وَارْفُقُوا فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ وَلَا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ"
[29].
 
و مما يستفاد من هذا الحديث أن التعدد و الجمع بين النسوة كان هو واقع النبي صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم. و الله عز و جل لا  يختار لنبيه صلى الله عليه و سلم إلا الأكمل و الأفضل، إذ لو كان الاقتصار على واحدة خير من التعدد لفعله النبي صلى الله عليه و سلم، لكن الله سبحانه و تعالى اختار له الأفضل الذي هو التعدد دون المفضول الذي هو الاقتصار على واحدة.
 
         و الناظر في حال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في النكاح، يجدهم يحثون عليه و يحرصون على الجمع بين النسوة و تكثير سواد الأمة. مقتفين في ذلك أثر نبيهم صلى الله عليه و سلم، مؤتمرين بأوامر الله عز و جل و نبيهم صلى الله عليه و سلم.
و أول ما نبدأ به هنا هو ما رواه الإمام البخاري في صحيحه:" عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: فَتَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً".
 
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح عند شرحه لهذا الحديث: ووقع عند الطبراني من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " تزوجوا فإن خيرنا كان أكثرنا نساء " قيل المعنى خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل . والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير النبي صلى الله عليه وسلم ، وبالأمة أخصاء أصحابه ؛ وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح ، إذ لو كان راجحا ما آثر النبي صلى الله عليه وسلم غيره... ووقع في " الشفاء " أن العرب كانت تمدح بكثرة النكاح لدلالته على الرجولية... وفي الحديث الحض على التزوج وترك الرهبانية
[30].
        
و قال ابن قدامة في المغني: والناس في النكاح على ثلاثة أضرب ؛ منهم من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح ، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء ؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه ، وصونها عن الحرام ، وطريقه النكاح . الثاني ، من يستحب له ، وهو من له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور ، فهذا الاشتغال له به أولى من التخلي لنوافل العبادة . وهو قول أصحاب الرأي ، وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم ، وفعلهم .

قال ابن مسعود : لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام ، وأعلم أني أموت في آخرها يوما ، ولي طول النكاح فيهن ، لتزوجت مخافة الفتنة
[31].
 
إذن، كانت هذه نماذج من حث الصحابة رضوان الله عليهم على امتثال أمر النكاح الذي اتفقنا سابقا أن أعلى مراتب الامتثال في النكاح هي الجمع بين أربع. و إذا كانوا يحثون على ذلك فليس غريبا أن يفعلوه، فما من صحابي إلا و كان تحته أربع نسوة و كثير من الإماء. و سنسوق بعض الأمثلة على ذلك.
        
فقد جاء في سنن ابن ماجة عن ابن عمرقال: أسلم غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "خذ منهن أربعا"
[32]، و في لفظ:" أمسك أربعا وفارق سائرهن". و هو أحد الستة أسلموا من تلك القبيلة كل منهم على عشر نسوة و خص بالذكر لكون الخطاب وقع معه و البقية: مسعود بن مصعب، و مسعود بن عامر، و مسعود بن عمرو، و عروة بن مسعود، و سفيان بن عبد الله[33].  
        
و عن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال:" اختر منهن أربعا"
[34].
        
و في معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني قال: حدثنا أبي ، ثنا عبدان ، ثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، ثنا بشر بن المفضل ، ثنا قرة بن خالد ، حدثني سهيل المزني ، قال : حدثني بعض ، آل عمير قال : لما كان يوم الفتح ، إذا عمير بن عمرو الليثي عنده خمس نسوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « طلق إحداهن » ، فطلق دجاجة بنت الصلت ، فتزوجها عامر بن كدين.
        
و قال أيضا: حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد ، ثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي ، ثنا آدم بن أبي إياس ، ثنا ورقاء ، عن سليمان الشيباني ، عن محمد بن عبيد الله الثقفي ، عن عروة بن مسعود الثقفي ، قال : أسلمت وتحتي عشر نسوة ، أربع من قريش ، أحدهن بنت أبي سفيان ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اختر منهن أربعا ، وخل سائرهن » فاخترت منهن أربعا ، منهن بنت أبي سفيان.
        
و قال الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء للذهبي :"كان للزبير أربع نسوة"
[35]. و هو نفس ما رواه أبو نعيم الأصبهاني قال: حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا أحمد بن عبد الله بن سابور ، ثنا محمد بن أبي معشر ، ثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : "قتل الزبير وترك أربع نسوة ، فورثت كل امرأة منهن ربع الثمن ألف ألف درهم".
        
و قال ابن حجر رحمه الله في الإصابة في معرفة الصحابة: وفي مسند محمد بن هارون الروياني: حدثنا خالد بن يوسف حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: مات عبد الرحمن بن عوف عن أربع نسوة
[36].
 
و في سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله: عن ابن المبارك قال: كان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة...و قال ابن وهب: حدثنا مالك قال: كان المغيرة نكاحا للنساء
[37].
 
و هذا قليل من الأخبار التي تيسرت لنا في شأن عدد النسوة اللواتي كن تحت الصحابي الواحد, و إلا فما لم نذكره كان أكثر مما ذكر.
 
لكن قد يعترض معترض فيقول: إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأذن لعلي رضي الله عنه أن يجمع مع ابنته ابنة أبي جهل و ذلك حين:" استأذنه بنو هشام بن المغيرة أن يزوجوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنة أبي جهل فلم يأذن في ذلك وقال:" إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها إني أخاف أن تفتن فاطمة في دينها وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبدا." وفي لفظ "فذكر صهرا له فأثنى عليه وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي".
 
و قد أجاب ابن القيم رحمه الله على مثل هذا الاعتراض بقوله: "فتضمن هذا الحكم أمورا : أحدها : أن الرجل إذا شرط لزوجته أن لا يتزوج عليها لزمه الوفاء بالشرط ومتى تزوج عليها فلها الفسخ ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يؤذي فاطمة ويريبها وأنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم ويريبه ومعلوم قطعا أنه صلى الله عليه وسلم إنما زوجه فاطمة رضي الله عنها على أن لا يؤذيها ولا يريبها ولا يؤذي أباها صلى الله عليه وسلم ولا يريبه وإن لم يكن هذا مشترطا في صلب العقد فإنه من المعلوم بالضرورة أنه إنما دخل عليه وفي ذكره صلى الله عليه وسلم صهره الآخر وثناءه عليه بأنه حدثه فصدقه، و وعده فوفى له تعريض بعلي رضي الله عنه وتهييج له على الاقتداء به وهذا يشعر بأنه جرى منه وعد له بأنه لا يريبها ولا يؤذيها فهيجه على الوفاء له كما وفى له صهره الآخر .
 
فيؤخذ من هذا أن المشروط عرفا كالمشروط لفظا وأن عدمه يملك الفسخ لمشترطه...
 
وفي منع علي من الجمع بين فاطمة رضي الله عنها وبين بنت أبي جهل حكمة بديعة وهي أن المرأة مع زوجها في درجته تبع له فإن كانت في نفسها ذات درجة عالية وزوجها كذلك كانت في درجة عالية بنفسها وبزوجها وهذا شأن فاطمة وعلي رضي الله عنهما ولم يكن الله عز وجل ليجعل ابنة أبي جهل مع فاطمة رضي الله عنها في درجة واحدة لا بنفسها ولا تبعا وبينهما من الفرق ما بينهما فلم يكن نكاحها على سيدة نساء العالمين مستحسنا لا شرعا ولا قدرا أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله "والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبدا"
[38].
        
كما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال:" وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما"، فلو كان الجمع بين النسوة حراما لمنع عليا مباشرة لأنه حرام. و لكن لما كان حلالا قال: " وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبدا"، فعلل منعه لعلي رضي الله عنه بأنه لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبدا لما في ذلك من أذية لفاطمة رضي الله عنها و لرسول الله صلى الله عليه و سلم، و لما في ذلك من مخافة الفتنة على فاطمة رضي الله عنها ليس في شيء من الدنيا و إنما في أعظم أمرها و هو دينها. فقال:" إني أخاف أن تفتن فاطمة في دينها".
 
المبحث الثاني: التعدد في مدونة الأسرة
 
         بعدما انتهينا من دراسة التعدد في القرآن الكريم و السنة النبوية باعتبارهما المصدر المرجعي لاستنباط الأحكام الشرعية في الشريعة الإسلامية ، فإننا سنتناول في هذا المبحث التعدد في مدونة الأسرة باعتبار مقتضياتها هي المطبقة أمام القضاء المغربي بالنسبة لجميع القضايا المتعلقة بالأسرة بما في ذلك التعدد.
 
المطلب الأول: التعدد في مدونة الأسرة بين المنع و الإباحة.
 
         لقد تناول المشرع المغربي موضوع التعدد في مدونة الأسرة في الكتاب الأول، القسم الثالث الخاص بموانع الزواج في الباب الثاني منه المخصص للموانع المؤقتة، و ذلك ابتداء من المادة 40 إلى المادة 46 متجها في ذلك إلى تكريس طابع المنع بتصدير المادة 40 ب " يمنع التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها". و الملاحظ أن ما ذهب إليه المشرع في المادة المذكورة يستمد مرجعه مما أصلناه آنفا من اشتراط العدل بين الزوجات و خطورة الإخلال بذلك و كذا ضرورة الوفاء بالالتزام للزوجة المشترطة لعدم التزوج عليها.
 
         لكن المشرع في المادة الموالية 41 بدأها بعبارة " لا تأذن المحكمة بالتعدد:

  • إذا لم يثبت لها المبرر الموضوعي الاستثنائي؛
  • إذا لم تكن لطالبه الموارد الكافية لإعالة الأسرتين؛ و ضمان جميع الحقوق من نفقة و إسكان و مساواة في جميع أوجه الحياة".
 
و لا يخفى على من تمرس بتتبع قواعد الصنعة التشريعية ما في الصياغة المختارة من توجه إلى منع التعدد و الحد منه و عدم السماح به إلا في حدود ضيقة وفق ما يؤكد ذلك الشروط اللازمة له، و الإجراءات المسطرية السابقة عليه حسب ما سنبينه لاحقا؛ ذلك أنه كان بالإمكان بدل اعتماد تلك الصياغة اعتماد الصياغة التالية التي توحي بالإباحة و الجواز مع اشتراط الشروط الضرورية لذلك و هي: " تأذن المحكمة بالتعدد:

  • إذا ثبت لها المبرر الموضوعي الاستثنائي؛
  • إذا كان لطالبه الموارد الكافية لإعالة الأسرتين؛ و ضمان جميع الحقوق من نفقة و إسكان و مساواة في جميع أوجه الحياة".
 
و لعل الأثر السلبي لمنحى كهذا يبرز في الممارسة العملية أمام القضاء الذي يجد نفسه ملزما تحت تأثير البعد النفسي للنص التشريعي بالتوسع في تحديد مفهوم و نطاق المبرر الموضوعي الاستثنائي الذي يبقى خاضعا للسلطة التقديرية للقاضي في غياب نص صريح يحدد نطاق هذا المبرر الذي قد يختلف باختلاف المكان و الزمان و الأحوال و الأعراف في كل قضية على حدة. و ما قيل عن المبرر الموضوعي الاستثنائي يقال على ضرورة توفر طالب التعدد على الموارد الكافية لإعالة الأسرتين و كيفية إثباتها.
 
و في ظل وضع كهذا، فإنه من اللازم على القضاء في ظل ما ينتظر منه في إطار السيرورة التاريخية التي يعرفها من أجل تكريس مبدأ فصل السلط و إرساء دعائم قضاء مستقل عادل و نزيه أن يلتزم بالموضوعية في تقدير المبرر الموضوعي الاستثنائي بعيدا عن التأثير النفسي للنص التشريعي لا سيما أن هذا الأخير أقر بالطابع الموضوعي لمبرر التعدد.
 
لكن التساؤل الذي يطرح نفسه بشدة: ما هي محددات الموضوعية في مبرر التعدد أمام غياب نص قانوني يؤطر العمل القضائي في هذه الناحية؟
 
من المعلوم أن الموضوعية هي خلاف الذاتية القائمة على العاطفة و الانحياز الخارج عن المعايير العلمية المنضبطة و الحقائق الثابتة بالأدلة و الحجج الدامغة، و عدم تحديد تلك المعايير يجعل من عملية تقدير المبرر الموضوعي عملية صعبة للغاية، لا سيما في موضوع كموضوع التعدد الذي يتداخل فيه ما هو ذاتي بما هو موضوعي بشكل يصعب معه على القاضي الفصل بينهما؛ ذلك أن أي طالب للتعدد كيفما كان نوعه و كيفما كان مبرره فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن لا يقترن بمبرر ذاتي قد يكون هو الدافع الأساسي في التعدد و الذي يتجلى في تلك العاطفة و الميل الذي قاده إلى التطلع إلى المرأة الثانية و اختيارها شريكة ثانية قبل التقدم إلى القضاء من أجل الحصول على إذن بالتعدد الذي يبقى في جميع الأحوال زواجا ثانيا يرجى منه ما يرجى من الزواج الأول من حصول المقصود من النكاح من المودة و الرحمة و العشرة الحسنة بين الزوجين.
 
فكل مبرر لا بد أن يكون ذاتيا قبل أن يكون موضوعيا في نظري المتواضع، و ذلك بالنظر إلى طبيعة و خصوصية عقد الزواج. و لعل هذا الأمر هو ما حدا بالمشرع في مدونة الأسرة إلى إضافة قيد آخر على هذا المبرر الموضوعي و ذلك بوصفه بالاستثنائي بشكل يخرجه من دائرة الأسباب العادية المبنية على مجرد الميل الطبيعي إلى امرأة ثانية أو ثالثة أو رابعة دون مبرر يجعل من هذا الزواج الجديد حلا استثنائيا في دفع مفسدة أو جلب مصلحة لم يتسنى لطالب التعدد تحقيقها في إطار الزواج الأول لا سيما إذا تعلق الأمر بالإخلال بالواجبات الزوجية، أو انتفاء تحقق المقصود من النكاح من الإحصان و العفاف. و هذا هو ما أكده القضاء في العديد من الأحكام و القرارات الصادرة في الموضوع نورد منها قرارا صادرا عن محكمة الاستئناف بوجدة عدد 93 في الملف عدد 645/2 جاء في حيثياته: " حيث إن هذه المحكمة بعد اطلاعها على وثائق الملف ومحتوياته على الصعيد الابتدائي والاستئنافي، ودراستها لعلل الحكم المستأنف، تبين لها بأن مانعاه المستأنف في محله، ذلك أن الثابت هو أن الزوجة... تعاني، من خلال  وثائق الملف وخاصة منها الشواهد الطبية، من قصور كلوي وتخضع للتصفية الدموية بصفة مستمرة، كما أن الشهادة المؤرخة في 07/07/2005 تفيد أن الزوجة... هي الأخرى أعضاءها التناسلية منكمشة مع استئصال الرحم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الزوجتين معا قد وافقتا كتابة على التعدد ولم يمانعا في ذلك، وهو ما أكدته الزوجة... أمام هذه المحكمة.

وحيث إن المستأنف أدلى للمحكمة بشواهد إدارية تفيد أنه يستغل قطعا فلاحية مغروسة بالزيتون، وأن مهنته الفلاحة، وأن هذه الموارد الفلاحية كافية لإعالة الأسرة وضمان جميع الحقوق من نفقة وإسكان وغيره في البيئة البدوية التي يعيش فيها

وحيث إن مرض الزوجتين ثابت من الشواهد الطبية، كما أن موافقتهما قائمة في النازلة. كل ذلك يشكل المبرر الموضوعي الاستثنائي للإذن له بالتعدد، وأن محكمة أول درجة لما لم تراع ذلك تكون قد جانبت الصواب، مما توجب إلغاء مقررها والحكم وفق الطلب تمشيا مع قاعدة درء المفاسد وإحصانا له من المحرمات". كما جاء في حكم المحكمة الابتدائية بالعرائش عدد 394 صادر بتاريخ 27/02/2004 ملف عدد 56/04: " و حيث ثبت للمحكمة من خلال الوثائق المدلى بها من طرف الطالب أن دخله كاف لإعالة أسرتين، كما أن السبب المبرر للتعدد المصرح به من طرفه و الذي أكدته الزوجة و المتمثل في عدم قدرة هذه الأخيرة على تحمل الأعباء المنزلية يبقى مبررا موضوعيا للتعدد ما دام أن الزوجة لم تعد قادرة على النهوض بأهم الواجبات الملقاة على عاتقها تجاه زوجها بمقتضى عقد الزواج"
[39].

المطلب الثاني: الإجراءات المسطرية للتعدد في ظل مدونة الأسرة

لقد أتت مدونة الأسرة بمجموعة من الإجراءات المسطرية التي تهدف من خلالها إلى حماية المرأة و تحقيق مبدأ العلانية في الزواج للمرأة المتزوج عليها و المرأة المتزوج بها.
 
و تبدأ مسطرة استصدار الإذن بالتعدد في حالة عدم وجود شرط الامتناع عنه بطلب يبين الأسباب الموضوعية الاستثنائية المبررة له و يكون مرفقا بالوضعية المادية. و طبقا للمادة 43 من المدونة فإن المحكمة يلزمها استدعاء الزوجة المراد التزوج عليها للحضور طبقا للإجراءات المتبعة في قانون المسطرة المدنية، فإذا توصلت شخصيا و لم تحضر أو امتنعت من تسلم الاستدعاء وجهت لها المحكمة عن طريق عون كتابة الضبط إنذارا تشعرها فيه بأنها إذا لم تحضر في الجلسة المحدد تاريخها في الإنذار فسيبت في طلب الزوج في غيابها على غرار ما يعمل به عند إفادة النيابة العامة بتعذر العثور على موطن أو محل إقامة يمكن استدعاؤها فيه، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن المدونة نصت على حق الزوجة في متابعة الزوج طبقا لأحكام الفصل 361 من القانون الجنائي إذا كان سبب عدم توصلها بالاستدعاء راجعا إلى تقديم الزوج بسوء نية لعنوان غير صحيح أو تحريف لإسم الزوجة.
 
و بعد استدعاء الزوجة تجري محاولة للتوفيق و الإصلاح في غرفة المشورة بحضور الطرفين، و للمحكمة بعد ذلك أن تأذن بالتعدد بمقرر معلل غير قابل لأي طعن إذا ثبت لها مبرره الموضوعي الاستثنائي و توفرت شروطه الشرعية، مع تقييده بشروط لفائدة المتزوج عليها و أطفالهما.
 
و في حالة امتناع الزوجة الأولى عن الاستمرار في العلاقة الزوجية و فشل محاولة التوفيق و الإصلاح مع مطالبتها بالتطليق فإن المحكمة تحدد مبلغا لاستيفاء كافة حقوق الزوجة و أولادهما الملزم الزوج بالإنفاق عليهم، يجب إيداعه داخل أجل لا يتعدى سبعة أيام، بعد إيداعه مباشرة تصدر المحكمة حكمها القاضي بالتطليق. و في حالة عدم إيداع المبلغ المذكور داخل الأجل المحدد يعتبر الزوج متراجعا عن طلب الإذن بالتعدد
[40]. فإذا تمسك بطلب الإذن بالتعدد و لم توافق الزوجة المراد التزوج عليها و لم تطلب التطليق ، طبقت المحكمة تلقائيا مسطرة الشقاق المنصوص عليها في المواد 94 إلى97 من مدونة الأسرة.
 
فإذا تمت تلك الإجراءات، و في حالة الإذن بالتعدد و وقوفا عند مبدأ العلانية فإنه لا يتم العقد على المرأة المراد التزوج بها إلا بعد إشعارها من طرف القاضي بأن مريد الزواج بها متزوج بغيرها و رضاها بذلك.
 
و في ختام هذا الموضوع المهم الذي تناولناه ابتداء بالتأصيل العلمي لحكم التعدد من القرآن الكريم و السنة النبوية، و انتهينا إلى تقنينه في مدونة الأسرة المغربية التي تشوفت في بعد سام و جليل إلى حماية الأسرة بشكل عام و المرأة بشكل خاص محاولة بذلك تقنين التعدد و تقييده، لا سيما في هذا الزمان الذي قل فيه الوازع و ضيعت فيه المسؤولية من قبل كثير من الأزواج الذين سعوا إلى التعدد دون أن تتحقق فيهم شروطه اللازمة له شرعا و ديانة من عدل و رعاية تامة تمثلا لحديث النبي صلى الله عليه و سلم: " من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطًا - أو مائلاً" (رواه أهل السنن وابن حبان والحاكم).
 
حقا إن المرأة الأولى ترى في الحد من التعدد و اعتباره استثناء حماية لها بشكل من الأشكال، لكن في المقابل فإن فئة كبيرة من النساء في ظل ارتفاع نسبة العنوسة يرين خلاف ذلك و هن من جنس المرأة الأولى من حقهن الحصول على شريك حياة في إطار علاقة شرعية و هن نساء من جنس الزوجة الأولى، لكن قدرهن أنهن لسن زوجات أوليات.
 
جميل أن يرى المرء زوجة سعيدة رفقة زوجها و أبنائها، لكنه مؤسف و محزن كثيرا أن نرى نساء كثرا يعانين الوحدة و الوحشة و الضياع يتربص بأعراضهن كل داهية ماكر في غياب زوج رحيم.
 
جميل أيضا أن نرى زوجات يربين أولادا أنجبوا في فراش الزوجية، لكن محزن و مؤلم جدا أن نجد أبناء زنى ولدوا في الشارع خارج العلاقة الزوجية يعانون من التشرد و الإهمال و الضياع بعدما تعذر على الأب الارتباط بالأم في إطار زواج شرعي ثان.
 
إن الأخذ بكل تلك الاعتبارات يجعل من النظر إلى التعدد بنظرة مقاصدية ضرورة ملحة تقع على عاتق كل من المشرع و القضاء باعتباره وسيلة تحقق المصلحة للمرأة عامة؛ ليس فقط المتزوجة و لكن أيضا غير المتزوجة التي هي في أمس الحاجة إلى هذه الحماية بإعطائها الحق في أن تكون و لو زوجة ثانية لمن تحقق فيه شرط العدل و القدرة من دون أن تمس بحق الزوجة الأولى التي لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يكون التعدد بالنسبة إليها سببا في إنهاء العلاقة الزوجية وتفكك الأسرة و تشريد الأطفال طالما أن المحكمة لا تأذن بالتعدد إلا بعد التحقق من شرطي العدل و القدرة على إعالة الأسرتين و ضمان جميع الحقوق من نفقة و إسكان و مساواة في جميع أوجه الحياة.




الهوامش
[1] على عبد الواحد وافي : قصة الزواج والعزوبة ، القاهرة 1395 هـ ص52 . نقلا عن محمد بن مسفر بن حسين الطويل، تعدد الزوجات في الإسلام، ص: 05.
[2] - محمد ابن جرير الطبري. جامع البيان في تأويل القرآن. تحقيق أحمد محمد شاكر.ج: 7، ص: 540، 541. الطبعة الأولى مؤسسة الرسالة.
[3] - أبو عبد الله محمد بن أحمد الانصاري القرطبي. الجامع لاحكام القرآن ج:5. ص: 12، 13. دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه - 1985 م.
[4] - أبو بكر بن العربي. أحكام القرآن. تحقيق عماد زكي البارودي. ج:1. ص: 392. المكتبة التوفيقية.
[5] - ابن منظور. لسان العرب. ج:2. ص: 625. دار صادر بيروت . الطبعة الأولى.
[6] - و سيلاحظ القارئ الكريم أننا سننطلق في هذا البحث من منطلق الدليل حتى في أبسط المسائل التزاما منا بالضوابط العلمية.
[7] - أبو عبد الله محمد بن محمد بن آجروم. متن الأجرومية. ص:2. المكتبة الثقافية. بيروت.
[8] - محمد محي الدين عبد الحميد. التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية. ص:13 . دار الطلائع.
[9]-  التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية. م س. ص:51.           
[10] - محمد الأمين الشنقيطي. مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر. تحقيق و تعليق أبو حفص سامي العربي. ص:335. دار اليقين.
[11] -  المرجع السابق. ص: 337.
[12] - عبد السلام و عبد الحليم و أحمد بن عبد الحليم آل تيمية.  المسودة في أصول الفقه. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. المدني. ص: 5.
[13] - أبو عبد الله محمد بن محمد الرعيني الشهير بالحطاب. قرة العين لشرح ورقات إمام الحرمين. ضبط نصه و علق عليه جلال علي عامر الجهاني. ص: 19.
[14] - ابن حزم الأندلسي الظاهري. الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 259.
[15] - المسودة في أصول الفقه. مرجع سابق. ص: 7.
[16] - الورقات في أصول الفقه.
[17] - مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر.المرجع السابق.ص: 342, 343.
[18]- أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير. تفسير القرآن العظيم. تحقيق سامي بن محمد سلامة.ج:2، ص:209. الطبعة الثانية. دار طيبة للنشر والتوزيع.
[19]- مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر.المرجع السابق.ص: 82.
[20] - تفسير القرأن العظيم. م س. ج: 2، ص: 430
[21] - محمد أبو زهرة. الأحوال الشخصية. ص: 90. دار الفكر العربي.
[22] - ابن حجر العسقلاني. فتح الباري شرح صحيح البخاري. تحقيق سيد بن عباس الجليمي و أيمن بن عارف الدنشقي ج: 11, ص:341. دار ابن حبان. الطبعة الأولى.
[23] - رواه البخاري رقم 5063 .
[24] - فتح الباري. م س. ج:11, ص:343.
[25] - صحيح. سنن ابن ماجة.
[26] - صحيح. صحيح الجامع الصغير و زياداته. انظر حديث رقم: 2941.
[27] - صحيح. صحيح الجامع الصغير و زياداته. انظر حديث رقم: 6807 .
[28] - فتح الباري.م س. ج: 11، ص: 353.
[29] - رواه البخاري. رقم 5067.
[30] - فتح الباري. م س . ج: 11. ص: 355، 357.
[31] - موفق الدين ابن قدامة المقدسي. المغني. كتاب النكاح. ج:14. ص: 353.
[32] - سنن ابن ماجة. قال الشيخ الألباني: صحيح.
[33] - حاشية الشيخ عبد الله الشهير بالشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب لشيخ الإسلام أبي زكرياء الأنصاري. المجلد الثاني. ص: 216. دار الفكر.
[34] - رواه أبو داود وابن ماجه. قال الشيخ الألباني: حسن.
[35] - شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. سير أعلام النبلاء. الإمام الذهبي . ج :1 / ص :67. مؤسسة الرسالة
[36] - ابن حجر العسقلاني. الإصابة في معرفة الصحابة  .ج: 3 ، ص: 199. بدون طبعة.
[37] - سير أعلام النبلاء. الإمام الذهبي . م س.  ج :3 . ص :31.
[38] -  ابن قيم الجوزية. زاد المعاد في هدي خير العباد. تحقيق: محمد بن عيادي بن عبد الحليم. ج:4, ص:47, 48.مكتبة الصفا.
[39] -  منشور بمجلة قضاء الأسرة. العدد الأول. ص: 107 و ما بعدها.
[40] -  و لقد نحى المشرع في مدونة الأسرة هذا المنحى في اعتبار عدم إيداع مستحقات الزوجة و الأطفال داخل الآجال المقررة تراجعا عن الطلب كما هو الحال هنا في التعدد، و كذا الطلاق و التطليق دون التمليك الذي تناولته المادة 89 حيث تتحدث فقط عن التأكد من شروط التمليك من طرف المحكمة و محاولات الإصلاح، فإذا تعذر هذا الأخير فإنها تأذن للزوجة بالإشهاد على الطلاق حيث تنص المادة 89 في فقرتها الثالثة "  إذا تعذر    الإصلاح، تأذن المحكمة للزوجة بالإشهاد على الطلاق، وتبت في مستحقات الزوجة والأطفال عند الاقتضاء، تطبيقا لأحكام المادتين 84 و 85 أعلاه".
فالملاحظ من خلال هذه المقتضيات أنه إذا تعذر الإصلاح فإن المحكمة تأذن للزوجة بالإشهاد على الطلاق، على خلاف الطلاق الموقع من طرف الزوج، حيث تنص المادة 83 على أنه " إذا تعذر الإصلاح بين الزوجين، حددت المحكمة مبلغا يودعه الزوج بكتابة الضبط بالمحكمة داخل أجل أقصاه ثلاثون يوما لأداء مستحقات الزوجة والأطفال الملزم بالإنفاق عليهم المنصوص عليها في المادتين المواليتين"، حيث جعلت الإشهاد على الطلاق و وقوعه قانونا رهينا بإيداع ذلك المبلغ من قبل الزوج بكتابة ضبط المحكمة، حيث اعتبرت المادة 86 عدم إيداعه تراجعا عن الرغبة في الطلاق، و ذلك لا يستقيم و الطلاق واقع شرعا.
و لعل المشرع قد جانب الصواب في هذه المسألة حين رهن الإشهاد على الطلاق بإيداع ذلك المبلغ، إذ كان الأولى الإذن بالإشهاد على الطلاق و تأكيد و قوعه، ثم البت بشأن المستحقات و متابعة الزوج بها و اعتبارها دينا في ذمته.
و ذكرنا مقدما مسألة التمليك للاستدلال بها على هذا  الرأي، حيث بعد تعذر الإصلاح يأتي مباشرة في صياغة المادة 89: " تأذن المحكمة للزوجة بالإشهاد على الطلاق، وتبت في مستحقات الزوجة والأطفال عند الاقتضاء" و لم تتطرق لمسألة امتناع الزوج عن إيداع المستحقات و تأثيره على الإذن بالإشهاد على الطلاق من قبل الزوجة. و لا يقولن قائل إن المشرع قد نسيها أو أغفلها، و كيف يكون ذلك و هو الذي جعل الإشهاد على الطلاق الموقع من قبل الزوج رهينا على إيداع المستحقات. و إنما نقول إن المشرع في هذه المادة وجد ملزما بالسكوت و الاكتفاء بعبارة " وتبت ـ المحكمة ـ  في مستحقات الزوجة والأطفال عند الاقتضاء" ذلك أن لازم التمليك يتنافى و اشتراط  إيداع المستحقات قبل الإشهاد لأنه لو كان الأمر كذلك لامتنع الزوج عن إيداعها، و بالتالي حرم الزوجة من إيقاع الطلاق، خاصة إذا علم أن الفقرة الأخيرة من المادة 89 تنص على أنه: " لا يمكن للزوج أن يعزل زوجته من ممارسة حقها في التمليك الذي ملكها إياه"، فكان لزاما على المشرع أن ينص على أنه عند تعذر الإصلاح فإن المحكمة تأذن للزوجة بالإشهاد على الطلاق.

و إذا لم يكن الإشهاد على الطلاق رهينا بإيداع المستحقات في حالة التمليك، فإنه عند البت بشأن تلك المستحقات فإنها تبقى دينا عالقا في ذمة الزوج عليه أداؤه و دفعه لمستحقه أو لمستحقيه.
من هذا المنطلق نقول بأنه كان على المشرع سواء في باب الطلاق أو التطليق أن لا يجعل الإشهاد عليهما رهينا بإيداع المستحقات      و إنما الإذن بالإشهاد و اعتبار المستحقات دينا يتم استيفاؤه بجميع الوسائل المقررة خاصة و أن الطلاق واقع و نافذ شرعا، و خاصة أنه من خلال المادة 89 يستفاد أن المشرع ذهب إلى ما رأيناه. و الله أعلم و أحكم.
 




الاثنين 21 أبريل 2014

تعليق جديد
Twitter