MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



تأملات في مشروع تعديل القانون الجنائي المغربي

     

عفيف البقالي القاضي
عضو نادي قضاة المغرب



تأملات في مشروع تعديل القانون الجنائي المغربي
لقد أضحى مشروع القانون الجنائي مادة إعلامية دسمة تغري بالنقاش والنقد والتحليل ، نظرا لارتباطه بحريات وحقوق الأفراد من جهة و لكونه مرآة  تعكس توجهات الدولة ومدى مراعاتها لحقوق الإنسان من جهة أخرى، فقراءة نصوص القانون الجنائي تمكن الباحث من معرفة توجهات الدولة و سياساتها و مدى تقدم او تخلف مجتمعها ...

لكن الملاحظ أن النقاشات التي تطفو على سطح الساحة الإعلامية  لا تحاول الخروج عن الصراع السياسي والإيديولوجي الذي يسبق ولادة القواعد القانونية التي لا تتم إلا بعض مخاض عسير ، فينتج عنه قانون مشوه دون معالم واضحة أو توجه جلي ، نتيجة لمحاولة إرضاء الجميع وإمساك العصى من الوسط  وذلك على حساب قانون المنطق و منطق القانون ، فتطلق القاعدة القانونية طابعها الإجتماعي و تعلن عن وجهها أو بالأحرى وجوهها السياسية المتعددة مما يشكل للمجتمع صعوبة هضمها  و للباحث استحالة تحليلها .

و من ثم فعسر الهضم واستحالة الفهم نتيجة لتوجه المشرع ، فتوجهه الوحيد هو إرضاء الجميع و اخراس الألسنة ، فيتناسى ان جل التوجهات تفتقد للموضوعية في تحليل القاعدة القانونية لكونها مكبلة بالتوجه الحزبي والسياسي الذي يتسم غالبا بالعصبية فيفتقد بذلك لادنى مقومات التحليل العلمي .

وهكذا نجد من يطالب بإلغاء عقوبة الإعدام هو نفسه من ينادي بإلغاء جريمة الفساد و كذلك الجرائم ذات الأساس الديني مثل زعزعة عقيدة مسلم والإفطار العلني في رمضان دون مبرر شرعي . بينما من ينادي بالإبقاء على الإعدام هو نفسه من يدافع عن تجريم الفساد والجرائم الدينية ، ومن ثم يبدو الأمر و كأنه غير قابل للتجزئة فإما أن ترفض الأفكار الأولى جملة أو ترتكها جملة فتنضم بذلك للتوجه الثاني دون أن يتاح لك حق التفكير بحرية دون خلفية سياسية أو إيديولوجية ، رغم أنه لا يوجد توجه معين يحتكر الحقيقة خصوصا في لعبة السياسة التي تخضع لقواعد المصلحة و العداوة .

لهذا لكي نكون منصفين سنحاول أن نترك السياسة للساسة ،فنتحرر بذلك من كل القيود ونضع  أسسا للتجريم و العقاب نستنير على ضوئها في مناقشة الجرائم التي كانت و مازالت محل خلاف بين مؤيد و معارض .

الأساس الأول : التجريم استنادا على الضرر

إن مجرد إلقاء نظرة على فصول القانون الجنائي تكفي للقول أن معظم الجرائم تتضمن في طياتها ضررا للغير ، فارتكابها لا بد أن يضر بالآخر سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا ، و من ثم كان لا بد من العقاب على ارتكابها قصد الحيلولة دون وقوع الضرر، و ذلك بتحقيق و ظيفيتين اساسيتين للعقوبة تتمثلان في الردع العام و الخاص.

وحتى الجرائم الشكلية التي لا تتطلب نتيجة فإنها تتضمن هي الأخرى ضررا محتملا ، لهذا فضرورة تفادي وقوعه اقتضت ان يشملها هي الأخرى التجريم والعقاب .

وهكذا يتعين عدم تجريم الأفعال التي لا تشكل ضرار محققا او محتملا للآخر سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا ، مع مراعاة الأساس الثاني المتمثل في الاخلاق .

الأساس الثاني : التجريم استنادا على الأخلاق

قد توجد بعض الجرائم التي لا تشكل ضررا او مسا بحقوق الاغيار لكنها تمس بأخلاق و قيم المجتمع مما يشكل خطرا على بنيانه وركائزه .

و من ثم لا يمكن قبولها بذريعة الحريات الفردية لان الاخلاق التي تشكل اسس المجتمع تسمو على حريات الأفراد ، إذ يتعين على الفرد ان يتنازل عن جزء من حريته خدمته لمجتمعه و وطنه .
ولهذا لا يمكن التعايش مع افعال تشكل خطرا اخلاقيا لا يقل خطورة عن الضرر المادي الذي تحدثه الجرائم الأخرى .

ولكي نكون موضوعيين  فإننا نضع الاسسين السابقين كمعيار نستند عليه في مناقشة  الجرائم و العقوبات التي اثارت الكثير من الجدل ، مشكلة مرتعا خصبا للنقاش القانوني.

أولا- جريمة الإفطار العلني في رمضان دون مبرر شرعي

لا ريب أن الصوم شعيرة دينية تمثل علاقة المسلم بربه ، فلا يمكن فرضه فرضا على الآخرين بالقوة ، بل حتى ان الدين كله لا يفرض فرضا تطبيقا  لقول الله عز وجل :"لا إكراه في الدين ".(الآية 265 سورة البقرة ).

ومن ثم ما لا يفرض جملة لا يفرض تفصيلا  ، كما أن القانون الجنائي لا ينبغي ان يتدخل في الحقل الديني لانه مسألة شخصية تختلف باختلاف قناعات الأشخاص و افكارهم وتوجهاتهم ، فلا يمكن للنصوص الجنائية ان تحاربها بواسطة التجريم و العقاب لسببين :

الأول : لا يمكن تجريم حرية التفكير و الإعتقاد

الثاني : لا يمكن للمشرع ان يكون وسيطا بين الله عز وجل و عبده في حماية العبادات والشعائر الدينية .
وبالرجوع إلى الفصل 222 من القانون الجنائي نجده ينص على انه :"يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر و غرامة من 2000 إلى 20000 درهم او بإحدى هاتين العقوبتين، كل من عرف باعتناقه للدين الإسلامي ، وتجاهر بالإفطار في نهار رمضان ، في مكان عمومي دون عذر شرعي ."

و يبدو أن هذا النص يفتقد لأدنى مقومات النص الجنائي ، إذ ينبغي لهذا الأخير احترام مبدأ الشرعية الجنائية الذي يفرض ان تكون عبارات النص واضحة دقيقة كي لا يجبر القاضي على التوسع في التفسير .لكن  المشرع أبى إلا ان يستعمل عبارات فضفاضة تقبل تاويلات عدة  مثل عبارة "من عرف باعتناقه الدين الإسلامي". فهذه العبارة فضلا عن ما تخلقه من إشكال في الإثبات فإنها تأخذ بالظاهر مع العلم ان الدين ليس قضية ظاهر و إنما يرتبط اساسا بالإعتقاد .

وهكذا يبدو ان التشريع الجنائي استعار نظرية الظاهر من التشريع التجاري رغم انه لا ينبغي لهذه النظرية ان تجد لها مكانا في النصوص الجنائية .

ثانيا- جريمة زعزعة عقيدة مسلم

تنص المادة 1-220 من مشروع القانون الجنائي على أنه :"يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين و غرامة من 2000 إلى 20000 درهم كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى ، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم .

يجوز ، في حالة الحكم بالمؤاخذة ،ان يحكم بإغلاق المؤسسة التي استعملت لهذا الغرض ،وذلك إما بصفة نهائية او لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات" .

يتضح من نص المادة 1-220 ان المشرع يمارس الوصاية على المسلم  و كانه قاصر، وهكذا يتدخل المشرع لحماية عقيدته رغم ان العقيدة قضية اقتناع و لا يمكن حمايتها بواسطة القانون الجنائي كما لا يمكن الاحتيال عليها بواسطة مساعدات مالية .

و يحق لنا ان نتساءل ماذا لو بعث الرسول صلى الله عليه و سلم في عصرنا هذا فهل ستتم متابعته بزعزعة عقيدة مشرك؟ و هل يحق للدول غير المسلمة ان  تشرع قوانين جنائية تعاقب ايضا مسلمين يقومون بالدعوة إلى الإسلام ؟

ورب قائل أن  المادة  220-1 لا تجرم الدعوة إلى الدين او تحويل الديانة بحد ذاتها و إنما تجرم هذه الدعوة متى اقترنت بوسائل الإغراء او ما شابهها .

لكن إن كان الامر كذلك كيف نفسر قوله تعالى "إنما الصدقات للفقراء والمساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل فريضة من الله و الله عليم حكيم " (سورة التوبة الآية 60)

فهل الدعوة إلى السلام عن طريق تأليف القلوب بواسطة المال أمر محمود بالنسبة للمسلم الذي يدعو إلى دينه بينما هو جريمة بالنسبة للغير ؟ !

ثالثا - جريمة الإساءة إلى الله

تنص المادة 219 من مشروع القانون الجنائي على أنه :"يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات و غرامة من 20000 إلى 200000 درهم ، كل من قام عمدا بالسب أو القذف أو الاستهزاء أو الإساءة إلى الله أو الأنبياء و الرسل ، بواسطة الخطب أو الصياح أو التهديدات المفوه بها في الأماكن أو الإجتماعات العمومية أو بواسطة المكتوبات أو المطبوعات أو بواسطة مختلف وسائل الإتصال السمعية البصرية و الالكترونية سواء كان ذلك بالقول أو الكتابة أو الرسم التعبيري أو الكاريكاتوري أو التصوير أو الغناء أو التمثيل او الغيماء او اية وسيلة اخرى ."

يلاحظ ان هذا النص اقتضته ضرورة تجريم بعض الافعال التي تشكل إساءة لله عز وجل  و التي برزت بشكل ملموس في الآونة الأخيرة فوضعت القضاء في موقف حرج  نظرا لغياب نص يجرم و يعاقب ، ومن ثم كان من الضروري ان يسد المشرع هذه الثغرة القانونية بواسطة تخصيصه مادة في مشروع القانون الجنائي تجرم و تعاقب الاساءة لله عز وجل بل و تتوسع كثيرا في تحديد وسائلها و طرقها و تطبيقاتها .

وإذا كان تجريم مثل هذه الأفعال ضرورة لا جدال فيها إذ لا يمكن لعاقل ان ينكرها ، فإن صياغة النص تجعلنا نتساءل عن مدى احترامه لأبجديات القانون الجنائي . فعبارة الإساءة إلى الله عز وجل عبارة  فضفاضة و واسعة تتنافى و مبدأ الشرعية الجنائية الذي يقتضي الدقة في صياغة النص الجنائي تجنبا لتحكم القضاة عن طريق التوسع في التفسير .

وهذا ما يدفعنا للتساءل عما إذا كان التجريم حسب صياغة نص المادة 219 من مشروع القانون الجنائي يشمل الآراء المختلفة حول التجسيم ؟

رابعا - جريمة الفساد

لعل جريمة الفساد من اهم الجرائم التي أثارت ضجة في الآونة الاخيرة ، فهناك من يطالب بإلغائها احتراما للحرية الفردية فلا ضير ما دامت ترتكب برضا الأطراف كما انها لا ينتج عنها ضرر للغير . بينما يوجد توجه ثاني يطالب بالإبقاء عليها مستندا على الدين الإسلامي.

ولمناقشة جريمة الفساد لا بأس ان نبتعد قليلا عن الدين لكي لا نقمع أفكار المنادين بإلغائها بإسم الدين ، و لانجعل من الإسلام وسيلة لمصادرة حقهم في النقاش ، فضلا عن أن الجريمة ظاهرة اجتماعية يجب تحليلها و مناقشتها مراعاة لتركيبة المجتمع المغربي الذي يتضمن المسلم و اليهودي و المسيحي و الملحد ..
فما يجمع المغاربة هو الوطن و ليس الدين ، لذا ينبغي ان تراعي القاعدة القانونية هذا التنوع و الاختلاف .
لكن مهما اختلفت العقائد و الديانات فإن الأخلاق تبقى نقطة مشتركة لا بد من مراعاتها و التجريم استنادا عليها ، وهكذا فإن الفساد يشكل مسا خطيرا بقيم المجتم بغض النظر عن الدين او العقيدة .

ومن ثم  فإن إلغاء جريمة الفساد هو إعدام للأخلاق و تعبيد لطريق الانحراف و تمهيد لتغيير مورثات المجتمع الثقافية و الأخلاقية و إحداث لطفرات شيطانية تنتج شرخا بين المجتمع و القيم .

خامسا  -عقوبة الإعدام

لعل الإعدام من العقوبات التي أسالت الكثير من المداد قديما و حديثا ، إلا ان نقاش الأمس  مختلف عن نقاش اليوم  إذ كان يقتصر غالبا عن كيفية تنفيذ عقوبة الإعدام ، فقد عرف التاريخ طرقا وحشية في تنفيذه تسعى فكانت وسلة للتعذيب و الإنتقام ، وهكذا تعددت الطرق الوحشية على مر التاريخ نذكر منها قلي الإنسان حيا في الزيت حتى الموت و ربط المجرم في اربعة احصنة يمضي كل منها في اتجاه حتى تتقطع أوصاله ....بينما النقاش الدائر حاليا تعدى تنفيذ عقوبة الإعدام بمراحل فأصبح ينصب حول إلغاء عقوبة الإعدام .

وإذا كنا نرفض الطرق الوحشية في تنفيذ عقوبة الإعدام والتي تخلت عنها جل التشريعات فإننا نؤيد الإبقاء على عقوبة الإعدام .

لكن قبل أن ندافع عن وجهة نظرنا لا بد أن نستعرض اولا حجج المطالبين بإلغاء هذه العقوبة و التي لطالما استندوا إليها لتدعيم رفضهم للإعدام .

الحجة الأولى : عقوبة الإعدام تتنافى والحق في الحياة
الحجة الثانية : لا يمكن تدارك أو تصحيح الخطا القضائي في عقوبة الإعدام

وفي الحقيققة فإن هذه الحجج واهية غير قوية ، فبالنسبة للحق في الحياة فإن عقوبة الإعدام تؤكده و لا تنفيه خصوصا في جريمة القتل إذ يعاقب القاتل لأنه مس حق الضحية في الحياة، ومن ثم فالإعدام تكريس لحق الحياة .اما بالنسبة للخطا القضائي فهو استثناء و ليس قاعدة، ومن ثم لا يمكن تاسيس قواعد قانونية على استثناءات ،كما ان هذا الاستثناء يمكن تصوره حتى في العقوبات السالبة للحرية ،و التي  لا يمكن تداركها او تصحيحها حتى بالإفراج عن المتهم، إذ لا يمكن  تدارك وتصحيح الأيام التي قضاها الشخص في السجن ،فهل يدفعنا هذا للمطالبة بإلغائها أيضا ؟ !

وهكذا يتضح أنه لا بد من الإبقاء على عقوبة الإعدام خصوصا في بعض الجرائم التي تتسم بالوحشية و الخطورة مما تعكسه من خطورة المجرم الذي لا يمكن للسجن أن يصلحه فيصبح بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للإنفجار في أية لحظة .

إذن يتضح مما سبق أنه يتعين على المشرع ان يراعي خصوصيات المجتمع المغربي عند وضعه للقاعدة القانونية ، فيتيعن ان تكون القاعدة القانونية خصوصا في المادة الجنائية اجتماعية و ليست دينية أو سياسية ، ولهذا ينبغي وضع معايير صارمة للتجريم و العقاب لكي لا يصبح القانون الجنائي اداة لخدمة إديولوجيات و او توجهات سياسية .
 
 



الاحد 5 يوليوز 2015

تعليق جديد
Twitter