MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



المجتمع المدني: مقاربة مفاهيمية

     



الدكتور محمد البكوري
باحث في الحكامة و المجتمع المدني.



المجتمع المدني: مقاربة مفاهيمية
 
مقدمة:

يعد مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم الحديثة التي ترسخت وبقوة في الفكر الديمقراطي، ومع تزايد أهميته أضحى المفهوم الأكثر توظيفا واستخداما، في أبعاد عديدة وسياقات مختلفة مما زاد من تشوشه واضطرابه وحجب ضرورة التفكير في تأصيله النظري، وغيب إلى حد كبير إمكانية تناوله النقدي.
 إن مفهوم المجتمع المدني يبقى من المفاهيم الأكثر إثارة للنقاش، وذلك لأن دلالة هذا المفهــوم ليست محددة بنفس الشكل بالنسبة للجميع، وهذا ما يجعله مشحونا ومحاطا بالتباسات عديدة، خاصة في استعمالاته المتعددة من طرف المفكرين، وتبنيه من طرف مختلف التنظيمات الحكومية والحزبية والنقابيـة-1-.
 إنه اذا انطلقنا من التساؤل التالي: ما هو المجتمع المدني؟ فالجواب سيظل  ضبابيا لأن الأمر يتعلق بمفهوم مرن، ويصبح بدون معنى في حالة حصره في تعريف دقيق وموحد، خاصة عندما نرصد التطورات المتلاحقة التي ما فتئت تعرفها المجتمعات المتسمة بحضور فعال وملفت للتنظيمات المدنية.
ونظرا للطابع الإشكالي الذي يتميز به مفهوم المجتمع المدني، نجد أن هناك عوائق ابستيمولوجية وصعوبات فكرية تواجه الباحث عند تعامله مع هذا المفهوم ومنها-2-:
* ضعف التأصيل النظري لمفهوم المجتمع المدني، وذلك على الرغم من شيوع استخدامه، وانه لم يحدث تأصيل نظري للمفهوم من حيث تعريفه وضبطه وتحديد متغيراته، مما يفرز العديد من النتائج السلبية: الانتقالية في نقل المفهوم، والتحيز في استخدامه، والمبالغة في قيمته.
* الاختلاف في تكييف طبيعة مفهوم المجتمع المدني فالبعض يستخدمه في مقابل الدولة، فالمجتمع المدنـي يحد من سلطتها ويحمي الأفراد من تعسفها، والبعض يستخدمه كمقابل للدين، بحيث يجب فصل الدين عـن الدولة، أي إعلان مبادئ العلمنة كأحد المدخلات لبناء المجتمع المدني، وآخرون يقيمون تمييزا بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، وهناك من يستخدم المدني كمقابل للعسكري.. وهذا مرده انعدام التحديــد الدقيق للمفهوم وعدم ثبات معناه.
* المواقف الجدية بشأن وجود المجتمع المدني من عدمه، خصوصا في الفكر السياسي العربي. والواقع أنه لن يكون من الممكن استخدام مفهوم المجتمع المدني بصورة عملية والاستفادة منه في التحليل النظري، من دون تحريره من اختلاطات ثلاثة على حد تعبير أحد المفكرين-3-:
* الاختلاط الأول: ويتجلى في أن المجتمع المدني هو رصيد قيم الحرية والتحرر، ويضعه في موضع النقيض من السلطة والدولة وما تنطويان عليه من القيم الاستبدادية.
* الاختلاط الثاني: فهو نابع من مطابقة مفهوم المجتمع المدني مع مفهوم الشأن الخاص المتعلق بالفرد وحياته الشخصية مقابل الشأن العام والدولة التي تهتم بالأمور الوطنية، وفي هذا السياق يصبح التحرر والتقدم في اتجاه الديمقراطية رهين العودة إلى الفردية وسيطرة المصلحة الشخصية.
* الاختلاط الثالث: وينبع من محاولة جديدة لوضع مفهوم المجتمع المدني في مقابل مفهوم المجتمع الأهلي، وفي هذه الحالة يستخدم المجتمع المدني كتعبير عن التنظيمات والبنى الحديثة بمثابة آلة حرب ضد الحركات والتيارات الحاملة للقيم التقليدية، كالحركات الدينية أو القبلية أو الجهوية. .

 الفرع الأول:المجتمع المدني كمقولة تأويليـة

لقد شهدت السنوات الأخيرة طفرة متقدمة لمقولة المجتمع المدني، سواء على المستوى التراكمي أو التأثيري كما وكيفا، مما خلق نوعا من الامتداد المعبر عن دينامية مجموعة من المفاهيم الجديدة من قبيل العولمة والحكامة والاتصالات والاندماج الاقتصادي.
 إن المجتمع المدني يبرز هنا ليس كقوة ذات مكانة سامية في عالم اليوم وإنما كانبثاق للتنوع والتعدد وبروز لمسارات الاختلاف والجمع بين الفلسفة، التاريخ وامتدادات السياقات الوطنية، لينظر إليه كمفهوم يتسم بشساعة التأويلات وبالتالي اختراق دلالته بنوع من الدينامية التأويلية.ومع ذلك نجد أنه كثيرا من الاستعمالات والتوظيفات التي ظل مفهوم المجتمع المدني لصيقا بها لم يوفق في عرضها بايجابية لكونها انطلقت من فرضيات مرتبكة للتأكيد على مفهوم ظل لوقت طويل مقولـة افتراضية من جهة، ومفهوما من المفاهيم التاريخية من جهة أخرى. هذه المفاهيم ما فتئت تشهد تحولات عديدة، فتاريخ المفهوم هو تاريخ تحولات ترصد في شتى الحالات ووفق مختلف الدلالات وذلك من بدايـة نشأته، مرورا بتشكلات المعرفة المرتبطة به والمعبرة عن ظرفية تاريخية معينة، حيث في كل مرحلة تاريخية يأخذ المفهوم دلالات جديدة تعبر في أحيان كثيرة عن قطيعة واضحة مع ما سبقها، الأمر الذي زاد من صعوبة الاتفاق على تعريف واحد للمجتمع المدني حتى داخل المجتمعات التي عرفت تاريخا اجتماعيا مشتركا وعاشت في ظل مؤسسات وأنماط تنظيمية متشابهة.
  وما دام البعد التأويلي يحيلنا على مفهوم غائي فإن السؤال: أين تكمن ضرورة المجتمع المدني؟ يظل سؤالا ملتبسا حيث نجد أنفسنا أمام مجموعة من الأسئلة الأخرى من قبيل: هل يكفي الادعاء بأن المفهوم مقولة تفسيرية، بينما هو ذاته بحاجة إلى تفسير؟ وهل يجوز استهلاك وصف المجتمع المدني بالوسائطية أو العلائقية من دون بذل الجهد في تحليل الوظائف العميقة التي يخترق عبرها المجتمع المدني منظومة القيم وليس فقط شبكة العلاقات؟ فالقول مثلا، بأن المجتمع المدني يلعب دور الوساطة بين المجتمع والدولة لا يفسر شيئا على الإطلاق: إذ كيف نعرف ظاهرة بالوساطة ثم نستعملها في تفسير الوساطة نفسها؟
وفي نفس الاتجاه يظل المعنى التأويلي مرتبطا بأدوات معرفية أخرى من قبيل الترجمة، حيث استعادت أعمال الترجمة مفهوم المجتمع المدني لتخضعه إلى تأويل يعكس السياقات السوسيو-سياسية التي تؤثر في المترجم، وهو ما يفسر الكيفية التي أصبحت بها دلالات المفهوم تحيل على أكثر من تعريف.
وحيث يساعد هذا التفسير أيضا، على تتبع الصيغ المتعددة والمتناقضة التي يتم التعبير بها عن المجتمع المدني في الخطاب الذي أنتج وينتج حول مفهوم يعد في حد ذاته مقولة تأويلية لعدة مفاهيم أخرى، وهو ما يعيد إلى الواجهة سؤال استقلاليته كمقولة مفاهيمية قبل أن يصبح واقعة سوسيولوجية، وبالتالي كيف لا تكون المفارقات الكاملة هي مكمن ضعفه بل باعث على استمراريته وتكيفه؟-4-. وعموما ،هناك قسم من العمل النظري والتجريبي البالغ التأثير يوحي بأن المجتمع المدني هو مقولة تم التنظير لها دون المستوى المطلوب وبشكل سيء ، لأنها لا تستطيع أن تفسر بعضا من تطورات الحياة المعاصرة. ويمكن القول ،أنه قد حان الوقت للذهاب أبعد من التفكير المحدود، وأبعد من الاحتفاء بالتشظي المحلي للتعاطي مع الأسئلة الكبيرة التي تطرحها العدالة الاقتصادية والنظرية الديمقراطية.-5-
هكذا، فالمنظور التأويلي لمفهوم المجتمع المدني هو متطور وظائفي يسعى الى  البحث عن غائيات تواجد هذا المفهوم ويطرح فرضيات مواءمته المستمرة ،وبالتالي يرسخ قدرته الفائقة على استيعاب مختلف التواجدات النظرية والعملية.

الفرع الثاني: المجتمع المدني كمقولة مفاهيمية

 تنطوي استعمالات مفهوم المجتمع المدني كما سبقت الإشارة إلى ذلك على كم هائل من الاختلاطات والالتباسات، حيث كل مقاربة ترتدي هنا لبوس الأيديولوجيا إنما تندرج في حكم المقاربات التي تتماهى مع عموم الخطاب النفعي.
إن التتبع التاريخي والرصد المنهجي والابستيمولوجي لمفهوم المجتمع المدني إنما هو محاولة معرفية للتصدي لهذا الائتلاف وتفكيك لتلك الاختلاطات التي أحاطت وواكبت تاريخ وتجربة المفهوم نظريا وسوسيولوجيا.
 وقد عرف مفهوم المجتمع المدني ذيوعا وانتشارا كبيرين في الخطاب العربي المعاصر وأصبح من المفاهيم الشائعة والمألوفة ومن ثم المقبولة رغم ما أثاره ولا يزال من اختلاطات واختلافات بشأنه- في كتابات الصحافة العربية وفي أحاديث وسائل الإعلام الأخرى، كما نجده فيما تعلنه النقابات والجمعيات المهنية من مطالب وبلاغات، وفيما تصدره جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان بمختلف توجهاتها من نداءات، كما يتردد المفهوم نفسه في خطب وأحاديث الأحزاب السياسية والعديد من الجمعيات الثقافية والاجتماعية، وفيما تورده مراكز البحث من تقارير ودراسات، هذا بالإضافة إلى عدم خلو خطابات وكتابات المثقف العربي منه، بل أن المثير في الأمر أن الخطاب الرسمي والحكومي العربي يحمل في الكثير من الأحيان هذا المفهوم .
 هذا الرواج الهائل لمفهوم "المجتمع المدني"أسهم في زيادة تعقيداته واضطراباته بشكل أضفى عليه عدم الاستقرار والتحديد الواضح، مما جعل فكرة المجتمع المدني تتهيأ للتوظيف الخاطئ والاستخدام السيئ، حتى أن استخدامه في بعض الصراع السياسي يتخذ مضمونه بحسب الجهة التي تستخدمه ووفقا للأغراض التي تسعى لتحقيقها، كما كانت للخلفيات الفكرية وطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي للمهتمين بفكرة المجتمع المدني دورا أساسيا في الوصول بالمفهوم إلى نوع من الاستقرار والوضوح، فقدم المفهوم تارة كمقابل للدولة والمجتمع السياسي وتارة أخرى كمقابل للديــن.كما قدم كمقابل للنظم العسكرية والبنى الاجتماعية التقليدية، وقدم أخيرا كمفهوم حديث لا صلة له بالمجتمع العربي الإسلامي كذريعة لرفضه وعد القبول به وهو ما جعل المفهوم حمال أوجه عديدة زادت من الغموض عند التعامل معه، فلم تهتم الكثير من الكتابات العربية في تناولها للمفهوم بإزالة هذا الغموض والإبهام الذي أحاط به أو أن تحاول إيجاد المدخل المناسب لتحديده تحديدا دقيقا من الناحية التاريخية والوظيفية والمجتمعية حتى يتم الكشف عن جوهره وأدواره وأبعاده.
 لذا ،فان المدخل المناسب لترسيخ مفهوم المجتمع المدني بما يحمله من مبادئ وقيم الديمقراطية والمشاركة بمعناها الواسع سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا وثقافيا هو القبول به أولا، ثم العمل على وضع آليات لتفعيله وفق متطلبات الواقع في المجتمعات العربية.
وقد أضفت فترات المد والجزر التي صاحبت المفهوم عبر تاريخه وتراوحت ما بين الصعود والهبوط، المزيد من التعقيد والغموض عليه، حيث أفرز هذا التأرجح كما هائلا من التعريفات، ما فتئت تزداد ثراء وتنوعا ،كلما اكتشف المفهوم في فضاء جديد أو أعيد اكتشافه في ساحة من ساحاته التقليدية-6-. ومن ثم ،فالإشكالية المطروحة هنا، ليست الوصول إلى تعريف جامع مانع للمجتمع المدنــي، بقدر ما هي محاولة التوصل إلى التحديد الدقيق لعناصر المفهوم ومحدوداته وبالتالي وظائفه وأهدافه، وذلك من خلال التعرف على الجذور التاريخية للمفهوم الذي تعددت مضامينه، باعتباره من ميـراث الحضارة الغربية. والجدل الذي صاحب شيوعه في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وحتى الآن يبين جوهر المفهوم من خلال عناصره وخصائصه ومقوماته-7-.
وعموما ،تعاني المفاهيم من مشكلة انحصارها وانغلاقها ،وبالتالي فشلها في اختراق قاموس خطاباتها، في حين أن مشكلة مفهوم المجتمع المدني هي انسيابيته  وانتشاره في كل الاتجاهات لينحت لذاته وجود إما تارة، أو ليفوض عنوة تارة أخرى، بحيث أصبح اصطلاحا متداولا في الجدل الذي تخوض فيه النخب التي تنتمي إلى مجالات وقطاعات مختلفة، في المعرفة، والسياسة، والاقتصاد.. فضلا عن ذلك ،نجد أن المفهوم يعد من المفردات المرحب بها في القاموس التداولي للتيارات المتدينة، حيث لا وجود لرجل دولة أو دين إلا واستخدم أو استغل هذا المفهوم، بل إن فئات وهيئات عريضة من قطاعات المجتمع تتبارى في السعي للحصول على صفة العضوية في تنظيمات المجتمع المدني، لأن هذه الصفة تعد مصدرا من مصادر الشرعية.. شرعية وجودية وشرعية حداثية. ان المجتمع المدني بهذا المعنى ليس مجرد قيمة سياسية، انه إفصاح عن قيمة وجودية.
   هكذا ينتمي المجتمع المدني إلى شبكة مفاهيمية، مما يزيد من صعوبات الرصد، ومن ثم يكون للمفهوم أكثر من نشأة، حيث ارتبط في كل مرحلة بتجربة  تميزها قطائع في الفكر والسياسة عما سواها، مما يعكس طبيعة المفارقات التي لزمت هويته التكوينية، سواء في مجال الأنساق الفكرية أو في التجارب التاريخية والاجتماعية. وقد ينتج عن ذلك كله ما يشوش على محاولات التعريف التي أخضع لها.حيث ينطوي بذلك مفهوم المجتمع المدني على صيغ دلالية ومفاهيمية تتمنع على الضبط والتحديد والتعريف. ومع ذلك ينبغي التأكيد على أن التمنع الذي يبديه مفهوم المجتمع المدني لا ينبغي أن يقود إلى التوقف عن الإمساك بتعريفه وتحليله، وبالتالي الارتقاء بهذه المحاولة ليكون لها هدف علمي ومنهجي ومعرفي، مع الإدراك التام بأنه كلما تضاعف استعمال المفهوم، إلا وتضاعف غموضه وانتصبت العراقيل أكثر فأكثر في وجه كل مقاربة لرصده. مما يجعل تاريخ المجتمع المدني من أطول وأقدم التواريخ كلها، ذلك أن تحول المفهوم من لغة إلى أخرى، وما واكب ذلك من انتقال لمضامين مجمل السياقات السوسيو سياسية والملأى بالتنوع والتعدد حد التناقض والتنافر عبر تاريخ طويل ومعقد يجعلنا  أمام مفهوم تاريخي شديد الحساسية إزاء التعريفات الإجرائية ،والتي يمكن أن تقلل من أهميته النظرية والمعرفية-8-.
وبالنظر إلى هذا البعد التاريخي للمفهوم وبعيدا عن كل الإسقاطات المجانية والتوظيفات الجزافية تنبثق الرؤية النقدية ل "مفهوم المجتمع المدني" والتي يجب ألا تنصب على المفهوم ذاته كما أبرزته المدارس المختلفة في الفكر الغربي ،بل يجب أن تنصب أساسا وبشكل أكبر على نقل هذا المفهوم في الوسط الأكاديمي والثقافي العربي مثلا، حيث أن "المجتمع المدني" هنا يعتبر مفهوما نموذجيا لعمليات مركبة ومتداعية تتعلق بنقل المفاهيم الغربية.
 مفهوم المجتمع المدني بذلك "مفهوم مأزق" مرجعيته غربية، ومنقولا إلى الواقع العربي، وهو في خبرته مفهوم أيديولوجي يرتبط باتجاهات مختلفة كما تتبناه مدارس متنوعة وهو مضطرب المعاني، صعب التكييف، كما أنه ليس محل اتفاق، وهو مفهوم منظومة يستدعي سيلا من المفاهيم الغربية، وهو مفهوم حضاري يرتبط بالمشروع التحديثي، كما أنه مفهوم نسبـي نظري إجرائي-9-. وفي سياق الإشارة إلى مأزق مفهوم المجتمع المدني، فقد يكون أحد مداخل الخروج من عناصر الغموض، التي تشكل أحد جوانب المأزق، والوصول بالمفهوم إلى غاية الوضوح، والعبور به من الفوضى والتقدير إلى الضبط والتنظيم، هو تحديد المفهوم بشكل إجرائي يعبر عن حقائق المفهوم وجوهره.
 ومن ثم يمكن تعريف هذا المفهوم على نحو إجرائي، ب"مجموع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة منها: أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى القومي، ومثال ذلك الأحزاب السياسية-10-، ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. وبالتالي يمكن القول إن الأمثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي: النقابات العمالية، النقابات المهنية، الجمعيات الاجتماعية والثقافية"..
إن هذا التعريف يعبر عن الانتقائية بدرجة أو بأخرى، اذ يرد عليه المعايب نفسها التي توجه إلى الأسس المنهجية التي يستند إليها التعريف الإجرائي بوجه عام، علاوة على ذلك فان هذه التعريفات الإجرائية بطبيعتها تحاول من خلال الارتباط بفكرة المؤشرات كإحدى الوسائل البحثية أن تتغافل عن الأبعاد التاريخية للمفهوم، وتتبع سيرته وتطوره، فهي تتعامل معه كما هو لا في تطوره، وإهمال تاريخية المفهوم لحساب المعاني المعاصرة التي أل إليها المفهوم لا يزال يدور حول الانتقاد نفسه وهو الانتقائية المعيبة.
في هذا المقام إن تحديد هذه الأشكال المرتبطة بالمجتمع المدني، ووفق التعريف الإجرائي، قد يشوبها عيب التحكم الذي يستبعد بدوره أشكالا أخرى ترتبط بأنماط حضارية أخرى، بل ترتبط بالنمط الحضاري الواحد على فترات زمنية مختلفة.
"المجتمع المدني" كمفهوم يشير يقينا إلى مجموعة الظواهر وعدد من الشروط تحول هذا المفهوم إلى مجموعة الظواهر التي يشير إليها والأخذ في الاعتبار شروطا عملية تصير أكثر حيادا وأقل تحيزا-11-.
 إن مفهوم المجتمع المدني باعتباره مفهوم "منظومة" إضافة إلى كونه مفهوما حضاريا، وفق التصور الذي يجعل منه رافدا ضمن المشروع الحضاري، يعني بدوره أن البحث عن مصادفات هـذا المفهوم وكذا الظواهر الجزئية التي يشير إليها، يفترض رؤية هذا المفهوم في منظومته التي يرتبط بها مثل "المواطنة، حقوق الإنسان، المشاركة السياسية والشعبية الشرعية- العلاقة السياسية..أي منظومة من المفاهيم يمكن استدعاؤها بمناسبة مفهوم المجتمع المدني، يجب مراعاتها بدورها في سياق النمط الحضاري المغاير أو المتميز.
 ضبط هذه المفاهيم بدورها والظواهر التي تشير إليها، وضبط النسب بينها،وعلائق التفاعل، إنما تعبر عن حقائق التعامل المنهجي مع هذا المفهوم وأشباهه. ومن ثم يعني هذا ضمن ما يعنيه القيام بترجمة المفهوم إلى جوهر يتعلق بالظواهر المرتبطة به والشروط الخاصة به. وهذه خطوة تبرز جدارتها بالاهتمام حين معالجة المفهوم، وهي جزء من القيام بعملية التحديد لجوهر المفهوم-12-.
وعموما، يعتبر مفهوم المجتمع المدني مفهوما متحركا وغير مستقر وغير قابل للاستخدام في كل زمان ومكان ،حيث أن هذا المفهوم مرتبط بنشأته، المتمثلة في المشكلات التي كانت مطروحة في وقت نشوئه-13-،أي أن لحظات معينة تاريخيا وعاطفيا هي التي تبرز مكامن قوة هذا المفهوم من جهة وتعري على مكامن ضعفه من جهة ثانية.

 الفرع الثالث: المجتمع المدني كواقعة سوسيولوجية

   كثيرا ما يتم التعامل مع المجتمع المدني تارة باعتباره مفهوما أو مقولة نظرية، وتارة أخرى باعتباره واقعة سوسيولوجية، وإذ لم يتم حسم الأمر من زاوية الالتباس الذي يطرحه، فانه من الضروري الوصول إلى حقيقة مفادها أن كل محاولة للفهم ستبقى متعثرة على مستوى هذا المفهوم بالذات.
   وهنا تنصهر كل من الخلفيات الفكرية وطبيعة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمهتمين بفكرة المجتمع المدني في بوتقة ،توصل هذا المفهوم إلى نوع من عدم الاستقرار والوضوح انطلاقا من كون المصطلح في العلوم الاجتماعية حمال تفسيرات عدة. كما أنه لا يوجد في منأى عن تأثيرات الذاتية والأيديولوجيا-14-.
هكذا ،نجد أنه سوسيولوجيا، ليس المجتمع المدني حقيقة ناجزة نتأكد تلقائيا من وجودها دون تحديد واضح للمقدمات، بل هي فرضية ملأى بالمفارقات، ومرصد لتاريخ حافل بتجاذب الأفكار وتدافع التجارب ،كما أنه لا تكمن أهمية المفهوم ووظيفته في بذل الجهد لإثبات وجوده من عدمه، وإنما تتجلى أهميته في التعاطي معه بحسبانه أداة تحليل وتفسير لمجمل التحولات والوقائع الاجتماعية التي تعتمل في النسيج المجتمعي.
إن المجتمع المدني من حيث هو معطى سوسيولوجي، قد انخرط في أكثر من مواجهة وتناقض: ضد الدولة كما ضد الدين، وضد الاقتصاد ،كما ضد الأحزاب السياسية وضد العولمة-15-.
     لكن على الرغم مما يمكن استنتاجه، مازالت إشكالية المجتمع المدني تنتمي وترتبط بإشكالية أعم وأعقد، إنها إشكالية التنظيم الاجتماعي برمته، وتحديد إشكالية علاقة المجتمع بالدولة والاقتصاد والقيم.
 فكل التفكير والتنظير اللذين بذلا في اتجاه حل هذه العلائق، وبالتالي إشكالية التنظيم الاجتماعي، جلها ألهمت الفكر السياسي والفلسفي والسوسيولوجي، الذي تعاطى مع مفهوم المجتمع المدني، وكانت من ثم المصدر الأول لكل الأفكار التي تبلورت فيما بعد عن المجتمع المدني، وهذا وحده يكفي ربما لتفسير تنامي المفارقات الكاملة في مقولة تم تحليلها والتنظير لها، في مجمل الأحوال، كقضية فكرية، أكثر مما تم بحثها كحقيقة سوسيولوجية-16-.
وسوسيولوجيا دائما فالمجتمع المدني مفهوم غير متجانس، إذ تعتمل ضمنه عناصر التنوع والاختلاف. فبرغم الإجماع الذي تحقق حول ضرورة دعمه إلا أن الخلاف حول تحديده مفاهيميا ما يزال محتدما. لكن ذلك لن يحول دون التأكيد على أن المجتمع المدني ما دمنا نلجأ إليه من حيث كونه مفهوما نظريا- يعكس التجاذبات والاستقطابات داخل مجتمع ما. إذ يلاحظ أن المجتمعات المنقسمة داخليا لسبب من الأسباب لا توفر لمواطنيها إلا ما ندر من الفرص لبناء جماعات على قاعدة قيم سياسية وأخلاقية مشتركة، ومن ثم يستحيل إرساء روابط بين مكونات هذه المجتمعات، مما يكون له الأثر الظاهر في عرقلة سيرورة انبثاق المجتمع المدني. كما أنه لا يجوز من الناحية السوسيولوجية أن يحصل العكس بمجرد أن تصبح الفوارق الاجتماعية مهيكلة وواضحة، فتأخذ الشرائح الوسطى مكانها الطبيعي في الإقلاع بمشروع المجتمع المدني -17-.
إن الجماعات الاجتماعية تحدد ملامح المجتمع المدني الذي يخضع لتأثيرات التحولات والانعطافات السوسيو سياسية، ومن ثم فان خطر التباين يرتبط صعودا ونزولا بهذه المحددات. ويبقى أن للمجتمع المدني دورا محوريا في بناء الإجماع الضروري لشرعنة تدخل الدولة. وعلى العموم فان له دورا فاعلا في إنتاج تبرير ما تتبعها السلطة، على أن هذا التبرير لا يمكنه إلا أن يكون تبريرا أيديولوجيا قـد يقوض مثل المجتمع المدني. ومع ذلك ،فان أي تفريط من جانب الدولة في شرعنة وجودها قد يحول المجتمع المدني إلى منبت لحركة اجتماعية مناهضة، لها من العنفوان ما يكفي لتقويض النظام السياسي برمتـه.
ولعل الصعوبة التي تحيط بعملية تحديد مفهوم المجتمع المدني قد نتجت في أثرها التباسات تهم موقع ووظيفة هذا المفهوم، مما انعكس بدوره على نتائج الأبحاث في مجال السوسيولوجيا. فقد أكدت بعض هذه الأبحاث أن الحياة الجمعوية لا تتطور إلا في ظل دولة قوية أي دولة بمقدورها حماية الحقوق بينما تذهب أبحاث أخرى باتجاه مفارق على مستوى النتائج، حيث يلاحظ أن كثيرا من الدول الضعيفة تسعى إلى تعزيز حضورها وفعاليتها من خلال سماحها بهامش من التعددية في الحياة الجمعوية، مما ينتج عنه نوع من التوازن الاجتماعي الذي يساهم في رفع رصيد الدولة من الشرعية والمشروعية.
 ولا شك أن المجتمع المدني أصبح مطلبا ملحا بعد أن انتقلت صيغ استعماله وتقلبت  بين نصوص الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي، لتأخذ في النهاية أشكال تداوله المعاصر مسار الفرضية التي يجب بحث إمكانها، أو مسار الواقعة السوسيولوجية التي يجب رصدها، أو مسار المقولة التحليلية التي ينبغي استخدامها في تفسير ظواهر التغيير الاجتماعي. ويمكن تلخيص هذه المسارات كلها في سؤال الوظيفة: أي ما هي الوظيفة التي يمكن لمفهوم المجتمع المدني أن يتبوأها كيفما تعددت المسارات؟
إن فقدان الثقة في قيم التحضر يعني الانزلاق مباشرة في أتون الفوضى والاستقرار، يتحول معهما الفرد باتجاه إشباع أنانيته. ولذلك يلاحظ في المجتمعات التي تعيش الحرمان والخصائص، أي تلك المجتمعات التي تمزقها الفوارق الاجتماعية، يلاحظ صعوبة انبثاق مجتمع مدني-18-.
  في هذا السياق ،يذهب بعض السوسيولوجيين خصوصا مع بداية القرن العشرين إلى مساءلة مفهوم "المجتمع المدني " بالنظر إلى المخاوف التي أثارها التقدم التكنولوجي. وهو التقدم الذي بدى كتمديد للمجتمع والحضارة ورافقه تمرد الفرد على الحياة الاجتماعية. ومن ثم فقد كان تاريخ الفكر الفلسفي والاجتماعي يقدم، ليس فقط مفاهيم عن المجتمع المدني ووظائفه ولكن أيضا نقدا وتشكيكا في إمكانات وجوده أصلا.
إن الغنى الذي يزخر به مفهوم المجتمع المدني إنما يتجلى على الخصوص، في التعاطي معه كمفهوم مفتاح في العلوم الإنسانية دون إهمال أن لكل مجتمع حيثيات تاريخية وحضارية، ولكل تخصص قواعد معرفية خاصة. مما يجعل لجوء الباحثين إلى مفهوم المجتمع المدني ليس لجوءا إلى مفهوم مطلق بقدر ما نكون إزاء فرضية يلزم أولا تأكيد صحتها سوسيولوجيا-19-.
 وهنا، نجد أنه حينما بدأت قوى الحداثة بتقويض الاقتصاديات الضمنية والمعرفة الكلية التي سادت العصور الوسطى، أدى التشكيل التدريجي للأسواق القومية والدول القومية إلى نشوء تراث ثان أخذ يصوغ مفهوما جديدا عن المجتمع المدني، بوصفه حضارة ممكنة نشأت بفضل المصلحة، الفردية والمنافسة والحاجة-20-.
وعموما، يمثل الرصد المعرفي والسوسيولوجي لمفهوم المجتمع المدني مشروعا نظريا أساسيا لما يستحقه من بذل الجهد لاعمال النظر في نصوص الفكر الفلسفي والسياسي والاجتماعي. مما يجعل الوجود السوسيولوجي للمجتمع المدني لا يتم فقط بمجرد تداول المفهوم، وإنما انطلاقا من الحرص على بلورته ضمن مجموعة قيم اجتماعية، وبالتالي إضفاء المزيد من التراكمات المعرفية على السياق الاجتماعي المحدد لمفهوم المجتمع المدني.

الفرع الرابع: المجتمع المدني بين المفهوم الكلاسيكي والمفهوم الجديد

إن المجتمع المدني مفهوم قديم جدا، وقد وفر لمدة طويلة، منطلقا مناسبا لتقويم مقولات الفكر السياسي المركزية، لكن البيئة السياسية المقيدة التي تحتضن العمل المعاصر تحجب العديد من دروس وعبر الماضي المفيدة.
ولكون المقدمات الأولى للمجتمع المدني لم تسبر بما يكفي من حيث أشكالها القديمة، فان المجتمع المدني غالبا ما يعرض بصيغة واهية وغامضة، لا تخضع للتنظير.
إن محمولات هذا المفهوم أوسع وذات امتدادات شاسعة وبإمكان العرض المفصل للتراث، المساعدة على تقويم الفرضيات المعاصرة حول الإمكانات الديمقراطية التي ينطوي عليها المجتمع المدني. وقبل كل ذلك ووفق مقاربة إسترجاعية يبدو الوقوف أمام المفهوم الكلاسيكي للمجتمع المدني، ذا أهمية لا يستهان بها أكاديميا.
 هكذا ،كثيرا ما ينظر إلى الفهم الكلاسيكي للمجتمع المدني، بوصفه جماعة (كومنولث) منظمة في كيان سياسي، صياغته المتماسكة الأولى في مدن اليونان القديمة. حيث كان يدور في فلك الفهم الذي مؤداه أن الرجال والنساء عاشوا حياتهم في أوضاع منفصلة، كما أن النظرية الإغريقية تأملت طيفا واسعا من العلاقات الإنسانية، فالحب والصداقة والتعليم والزواج والمواطنة وواجبات العبيد، ومسؤوليات السادة ومهارات الحرفيين وتقسيم العمل، كل تلك المسائل درست من حيث فرادتها وترابطاتها. وقد أثارت الملاحظة التي ترى أن الناس يعيشون في تجمعات متميزة ومترابطة مع ذلك نقاشا حول التفرد والعمومية والجزئية والكلية. وقد نجمت عن هذه المناقشات نظرية سياسية منهجية، وصاغت المقولات السياسية المقاربة الأولى للمجتمع المدني.
وقد دافع الفكر الكلاسيكي دفاعا متينا عن فكرة أن السلطة السياسية هي التي جعلت قيام الحضارة أمرا ممكنا. والتمييز المشهور الذي أقامه الإغريق بين أنفسهم والبرابرة عزل أولئك الذين تمكنهم عضويتهم في تجمع سياسي من العيش في مجتمع مدني عن أولئك الذين كانوا غير قادرين على فعل ذلك-21-.
 هكذا يظل المفهوم الكلاسيكي للمجتمع المدني مفهوما يمنح من السياسة الشيء الكثير، ويربطها بجملة علائقية من مفاهيم الحضارة والتقدم. الشيء الذي عرف تطورا في الرؤية الفكرية على مستوى المسار الحديث لهذا المفهوم والذي تبلور مع نشوء الدولة القومية ونمو الرأسمالية الحديثة، متمحورا حول مفهوم "المجتمع البورجوازي" ، لكن المفهوم اكتسب مدلولات جديدة مع تطور الدولة الحديثة والتحولات في النظام الدولي، وتأثيرات العولمة الاقتصادية (الرأسمالية) والثورة في الاتصالات ونظم المعلومات-22-. حيث أنه يلاحظ عودة المفهوم في العصر الحديث إلى الصعود مرة أخرى خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين في مرحلة انتقالية ساهمت في تشكيل الوضع العالمي الجديد وأدت إلى سوء استخدام المفهوم والى دخوله معارك فكرية لفرق متعارضة من المفكرين والأكاديميين .اذ ذهب بعضهم إلى أن المفهوم لا يظهر إلا حيثما وجد اقتصاد السوق وتوفرت ضمانات للملكية الخاصة، في حين ذهب البعض الآخر إلى القول بأن استخدام المفهوم بهذا الشكل يفقده الكثير من قيمته العلمية ويوظفه خدمة لمشروع أيديولوجي قديم متجدد ،وهو الترويج للمجتمع الليبرالي بكافة مؤسساته الثقافية والاقتصادية-23-.
هكذا، يكتسب المفهوم الجديد للمجتمع المدني بالدرجة الاولى، بعدا أيديولوجيا لربطه بالحركات التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية في عقد الثمانينات من القرن العشرين في مسارات التوجه نحو اللبرلة، من حيث تقليص سيطرة الدولة على الاقتصاد والتشكيلات السياسية والحركات الاجتماعية والنقابات والاتحادات المهنية.
والملاحظ أنه بعد انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي منح مفهوم المجتمع المدني بعدا "تنمويا" من خلال منظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فقد باتت هذه تنظر إلى المجتمع المدني باعتباره المجال الذي يتيح إشراك المواطنين في "التنمية البشرية المستدامة"، بعد أن فشلت التنمية في التحقق في معظم دول العالم الثالث. وكان الدافع وراء إعطاء موقع خاص للمجتمع المدني في عملية "التنمية البشرية" تبني سياسة الخوصصة والتقويم الهيكلي في إطار سياسة اقتصاد السوق باعتبارها الأنجع للتنمية الاقتصادية. ومنح هذا بعدا جديدا لمفهوم المجتمع المدني، حيث أن هذه السياسة التي روجت لها المؤسسات المالية الدولية، وخطاب الليبرالية الجديدة ركزت على حصر دور الدولة في تهيئة بيئة قانونية وبنية تحتية ملائمة لنمو القطاع الخاص باعتباره أداة التنمية الأساسية، مع توفير حد أدنى بالمشاركة والتنسيق مع منظمات المجتمع المدني، من الرعاية الاجتماعية للفقراء (في إطار ما يعرف بشبكات الحماية الاجتماعية) ولتدخل لاحقا مفردات جديدة على خطاب التنمية، خصت بالأساس منظمات المجتمع المدني كالمشاركة والتمكين. لقد منح المجتمع المدني وظيفة حماية الفرد من تعسف الدولة وسطوتها، أي منح بعدا وقائيا وحاميا للفرد من تدخلات الدولة وتجاوزاتها-24-.
 هكذا، يحمل المفهوم الجديد للمجتمع المدني في طياته أبعادا أيديولوجية تنموية مكنته من اقتحام وبقوة مفردات اللغة السياسية اليومية المتداولة بين رجال الصحافة والسياسة وغيرهم. الشيء الذي أدى إلى التباس وغموض المفهوم وذلك بسبب التشويه المتعمد الذي يمارسه البعض ضده وكأنه حزب سياسي ضمني أو بمثابة مواجهة دائمة مع الدولة أو مجرد اختصار لمفهوم الديمقراطية.-25-
ومع ذلك يمكن القول، أن مفهوم المجتمع المدني رغم هذا الالتباس والتشويه، أضحى في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، مفهوما متداولا على نطاق واسع، وهو الآن يعيش لحظة الذروة لما أثاره من افتتان لدى تيارات الفكر والسياسـة.
 وقد نضج هذا الافتتان في أتون الغليان الاجتماعي الذي عكسته تغيرات التبدلات السياسية والاجتماعية هنا وهناك، ومعه تحققت لفرضية المجتمع المدني موقعية متميزة في متون المباحث الأكاديمية المرتبطة بالعلوم الإنسانية، وبخاصة في ميدان السوسيولوجيا، ولتبرز في سياق ذلك أهمية المفهوم في تخصيب مناهج الدرس والتحليل-26-.
  لقد أخذ مفهوم المجتمع المدني لذلك حلة جديدة، فلقد أضحى أداة تفكير وموضوعا للتفكر، بحسبانه من المفاهيم الإجرائية التي دأب على توظيفها منظروا والعلوم الاجتماعية والسياسية في تحليل وتفسير ظاهرة الاستبداد السياسي التي تخنق المجتمعات-27-.
 ورغم أن المفهوم نشأ في المجتمع الغربي في ظل سياقات اجتماعية وفكرية معينة وظروف مختلفة، فانه أصبح اليوم مفهوما كونيا، شأنه في ذلك شأن مفهوم الحداثة، والتقدم، والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولذا فان كل من يشكك في المفهوم وفي قيمه، أو يحاول إعطاءه محتوى قطريا، أو يسخره خدمة لنظام سياسي معين فهو يتنكر لمكسب ثمين من مكاسب نضال المجتمع البشري في سبيل الحرية والعدالة والتضامـن-28-. المجتمع المدني إذن، في مفهومه هذا لا يمكنه الظهور في دولة شمولية، حيث الدولة تتوسط كل العلاقات، فلا يقوم تمييز بين العلاقات السياسية وغير السياسية، بينما اقتصار الدولة على مجال العلاقات السياسية ومحدودية مشاركة المواطنين في جهاز الدولة يتركان فضاء أو ربما فراغا يسهم بظهور المجتمع المدني-29-.
كما لا ينبغي إغفال الانتقال الأخير إلى المستوى الدولي والعالمي الذي ظل مشفوعا بظاهــرة العولمة، وثورة معلوماتية تهدف إلى تأسيس عناصر شبكة اتصالية Net working والتي صارت سمة للتفاعل الدولي في العقد الأخير، بحيث طالت ظواهر أخرى في العالم وتحت مسمى برز في الآونة الأخيرة وهو Global Civil Society إلا أن الأمر لا يتعلق بمجرد بروز التسمية ولكن الأمر يتعلق بالتساؤل إلى أي مدى يوجد على أرض الواقع المجتمع المدني العالمي في ظل تطورات ومتغيرات بعضها سياسي وبعضها اجتماعي واخر ثقافي؟ إذ يشهد العالم تحولات غاية في الأهمية يتراوح بين تباين حاد بين مناطق مختلفة وبين بروز ظاهرة العولمة بغض النظر عن الجدل الدائر حولها بين الرفض أو القبول أو التوجهات والتفاعلات الناجمة عنها–. وهو أمر يفرض في ظل التداخل وتطور العلاقة بين الداخل والخارج بين المجتمع المدني العالمي، ومستويات وجود المجتمع المدني الأخرى في العالم محليا وإقليميا وبين ما تفرضه عناصر مجتمع مدني عالمي وخبرات متمايزة ،ربما تجد جذورها في ذاكرتها الحضارية.
ومع بروز طابع العولمة وعملياتها والياتها التي أنشأت بيئة جديدة تنزع على نحو متزايد إلى عولمة نظم الاقتصاد وسياقات النظام الدولي، وكذلك مشاكل الإنسانية الراهنة، دفع كل ذلك المجتمع المدني بدوره ضمن هذه الظاهرة إلى اكتساب الطابع العولمي، ومثلما تكونت هيئات ومنظمات وتنظيمات ومؤسسات جديدة مشتركة بين الدول لمعالجة قضايا تتجاوز الحدود القومية، وكما ظهرت قوى السـوق العابرة للقارات، فقد نشأت مؤسسات جديدة للمجتمع المدني تتجاوز الحدود القومية بهدف زيادة تأثيرها على الأحداث والعمليات التي تشكل المجتمع، مما يعني انتقال نشاط المواطنين من مستوى المجتمع المحلي إلى المستوى القومي والإقليمي ثم إلى العالمي، ثم يرتد مرة أخرى إلى المستويين القومي والإقليمي والمحلي-30-. وبالتالي ينضاف إلى الأبعاد  الأيديولوجية والتنموية لمفهوم المجتمع المدني بعدا اخرا ،هو البعد الدولي المعولم.
 انه بالرغم من هذه التحديدات أو المنطلقات في التحديد، فان مفهوم المجتمع المدني قد حظي بعدد من التعريفات المتباينة شكلا ومضمونا ومن بينها: أن المجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولــة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف-31-. وهو التعريف الذي يستوحي أغلب عناصره  من المفهوم الهيغيلي للمجتمع المدني.
إن هذا التعريف، يجعل من هذه التنظيمات تحوي جملة من البنيات الأساسية للحياة داخل المجتمع كالجمعيات والنقابات والأندية والتعاونيات، أي كل ما هو غير حكومي، وكل ما هو غير عائلي أو ارثي وكذا الأحزاب السياسية، ولكن يبقى هذا الإقحام خاضع لمجموعة من التخوفات التي أثارتها مسألة ولوج صنف من الأحزاب ساحة المجتمع المدني-32-.حيث اعتبرت الأحزاب السياسية عند البعض من أهم مكونات المجتمع المدني. إلا أنه من الصعب القول بالفصل التام لهذا التصنيف، إذ أن الحزب كظاهرة سياسية لا يمكن تصنيفه أحيانا في خانة المجتمع المدني، لأنه يشكل جزءا من بنيان الدولة، فالظاهرة الحزبية تظهر وتتكون داخل سياق تشكل الدولة ذاتها كمؤسسة حديثة، وبالتالي فالأحزاب لا تنتمي إلى الحيز الذي يمثله مجال المجتمع المدني كمجال للحوار والاتصال العقلاني ولاختلاف المصالح في المؤسسات الاجتماعية التطوعية التي ظهرت خارج نطاق نشوء الدولة، لذا فالحزب السياسي يعتبر جزءا من المجتمع السياسي لأنه يسعى إلى الوصول إلى السلطة، في حين لا تهدف مؤسسات المجتمع المدني للوصول إلى نفس الغرض، بل تسعى إلى تحقيق أغراض سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو قانونية.. ومن هذا المنطلق يجب أن نستثني من مكونات المجتمع المدني، الأحزاب السياسية وكل الحركات السياسية التي تحمل مشروع خنق المجتمع المدني-33-.
وبعيدا عن هذا الصخب الفكري يمكن إعطاء تعريف آخر للمجتمع المدني باعتباره "مجموعة من المؤسسات والمنظمات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات المادية والرمزية بمعزل من الدولة -34- ودون تدخل مباشر من الحكومة-35رغم أن هذا التعريف يمكن أن ينطبق أيضا على مفهوم القطاع الخاص.                                                                     

                                     
   
  
خاتمة


عموما ،يبقى المجتمع المدني كجملة من البنيات والتنظيمات والعلاقات الاجتماعية المتحركة التي تطبع المجتمع المتحضر في شتى هياكله وتجلياته. وهو التعريف الذي ينسجم مع ما طرحه هذا المفهوم من تداعيات على سلم الحضارة الإنسانية، ويبدو في حلته كتعبير حيوي للممارسة الاجتماعية الخلافية التي تستهدف بدورها زرع آليات التعايش بين هاته الأطراف المتصارعة داخل المجتمع المنظم على أساس من تبادل الخبرات والخيرات بين عموم الناس
هكذا، تظل إشكالات التحديد إشكالات معقدة بالنظر إلى الطابع المتعدد المستويات لمفهوم ظل ومنذ قرون مفهوما "عائما" "زئبقيا" قادرا على خلق التجانس من جهة وبعث الارتباك من جهة أخرى. ومع ذلك فسياقات تواجد هذا المفهوم وامتداداته وارتباطاته هي القادرة على منحه بعض التحديد، ومن ثم تتبلور المعالم الكبرى لتعريفه كمفهوم دينامي وحركي باستمرار يتسم بخصائص مميزة ويتهيكل في مؤسسات محددة.                


                  
هوامش

                                                                            -1-سيدي عالي العلوي"المجتمع المدني بالمغرب:الواقع و الافاق" ،بحث لنيل  دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام ،جامعة الحسن الثاني،الدارالبيضاء،2001/2002  ،ص:26 .                                                   -2-حسين توفيق ابراهيم"بناء المجتمع المدني:المؤشرات الكمية و الكيفية"،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية"،(مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،1992) ،ص:684    .                     -3-برهان غليون"بناء المجتمع المدني العربي :دور العوامل الداخلية و الخارجية"،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..." ،نفس المرجع،ص:734 .                                                                                       -4-  جون اهرنبرغ"المجتمع المدني:التاريخ النقدي للفكرة"،ترجمة علي حاكم صالح،حسن ناظم.مراجعة  فالح عبد الجبار(المنظمة العربية  للترجمة،توزيع مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الاولى ،بيروت،فبراير2008)،ص: 25. -5-نفس المرجع ،ص:20 .                                                                -6-علي عبد الصادق "مفهوم المجتمع المدني:قراءة اولية"(الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة،2007)،ص:18.                                                  -7-نفس المرجع ،ص:19.                                                                   -8-محمد الغيلاني" محنة المجتمع المدني:مفارقات الوظيفة و رهانات الاستقلالية"،دفاتر وجهة نظر(6)،(مطبعة النجاح الجديدة،الدارالبيضاء، الطبعة الاولى،2005)،ص:22 .                                                              - 9-سيف الدين عبد الفتاح اسماعيل"المجتمع المدني و الاهلي من منظور اسلامي بين الفكر و الممارسة " ،ضمن "المجتمع المدني و ابعاده الفكرية"(دار الفكر ،دمشق،الطبعة الاولى ،غشت،2003)،ص:88 .                                                                                      -10-رغم ان مسالة انتماء الاحزاب السياسية الى تنظيمات المجتمع المدني  تبقى موضوع نقاش .                                                                           -11-سيف الدين عبد الفتاح اسماعيل،مرجع سابق ،ص:89  .                       -12-نفس المرجع ،ص:97 .                                                                  -13-ابراهيم ساهيل"الحكامة و تمويل الجماعات المحلية"،بحث لنيل شهادة الماستر في القانون العام ،جامعة محمد الخامس ،السويسي ،الرباط،يونيو2010،ص:27.-14-علي عبد الصادق ،مرجع سابق،ص:19                              .-15-محمد الغيلاني ،مرجع سابق ،ص:131.                                                        -16-نفس المرجع،ص:139 .                                                                      -17-نفس المرجع ،ص:74.                                                                     -18-نفس المرجع ،ص:56.                                                                     -19-جون اهرنبرغ ،مرجع سابق،ص:17.                                                  -20-نفس المرجع ،ص:16.                                                                       -21-نفس المرجع ،ص:30.                                                                           -22-جميل هلال" حول اشكالية مفهوم المجتمع المدني "مداخلة في ندوة "المجتمع المدني " المنعقدة ببيروت اكتوبر2004.                                            -23-جون اهرنبرغ ،مرجع سابق،ص:19.                                                   -24-جميل هلال ،مرجع سابق.                                                                 -25-علي عبد الصادق ،مرجع سابق،ص:19.                                                -26-محمد الغيلاني ،مرجع سابق،ص:50.                                                      -27-نفس المرجع ،ص:55 .                                                               -28-الحبيب الجنحاني" المجتمع المدني بين النظرية و الممارسة" ،مجلة عالم الفكر،المجلس الوطني للثقافة  و الفنون و الاداب ،الكويت،العدد الثالث،يناير /مارس1994،ص:46.                                                                       -29-رجب بودبوس"في المجتمع المدني" ،(المركز العالمي لدراسات و ابحاث الكتاب الاخضر بنغازي،ليبيا ،الطبعة الاولى 2008)،ص:3 .                             -30-سيف الدين عبد الفتاح اسماعيل،مرجع سابق،ص:135 .                                 -31-سعد الدين ابراهيم" المجتمع المدني و التحول الديمقراطي"(مركز الدراسات و التنمية السياسية و الدولية،القاهرة ،1991)،ص:5.                             -32-سيف الدين عبد الفتاح اسماعيل"المجتمع المدني  و الدولة في الفكر و الممارسة  الاجتماعية المعاصرة "،(مركز دراسات الوحدة العربية ،1992)،ص:292 .                                                                                              -33-سيدي عالي العلوي ،مرجع سابق،ص:28 .                                               -34-عبد اللطيف اكنوش"الديمقراطية و الدمقرطة  و الانتقال الديمقراطي بعيدا عن لغة الانفعال:من يتكفل بانجاز المرحلة؟"،جريدة المستقل،عدد348،من السبت30دجنبرالى الجمعة 5يناير2001 .                                                   -35-ابراهيم ابراش"المجتمع المدني:محاولة في التاصيل و نموذج في التطبيق" ،المجلة المغربية للادارة المحلية و التنمية العدد44/45ماي/غشت2002،ص:89                                                               



الاربعاء 27 ماي 2015

تعليق جديد
Twitter