MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



القضاء الإداري بالمغرب بين الوحدة والبلقنة ...رسالة إلى البرلمان؟

     



ذ. عبد المجيد مليكي
عضو مؤسس لنادي قضاة المغرب
باحث بمركز الدكتوراه في الدراسات والأبحاث القانونية والسياسية



لقد جاء إحداث المحاكم الإدارية بمقتضى القانون رقم 41.90 انسجاما مع توجه السياسات العامة نحو إقرار الضمانات القضائية لحماية الحقوق والحريات ومع انخراط المغرب في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان بمصادقته على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر بتاريخ 16 دجنبر 1966، واستكمالا لصرح دولة الحق والقانون وتوازيا مع إنشاء عدة مؤسسات أخرى ذات بعد حقوقي كالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الظهير الشريف رقم 1.90.12 الصادر في 20 أبريل 1990، وتمشيا كذلك مع المتطلبات المجتمعية الداخلية والدولية المتعلقة بالحقوق والحريات وإقرار السلم الإجتماعي.

وقد رسم الخطاب الملكي للمرحوم الحسن الثاني بتاريخ 05 ماي 1990 مبررات إحداث المحاكم الإدارية وهيكلها في نطقه التالي : « ... فإلى حد الآن ليس لنا هنا في المغرب إلا غرفة واحدة في المجلس الأعلى للنظر في المشاكل بين المواطنين والسلطة، أو المواطنين والإدارة، لأنني أميز جيدا بين السلطة والإدارة والدولة. فهذه الغرفة الإدارية لا تستطيع أن تنظر وتبت في كل القضايا ولاسيما أن الدولة اليوم تضع يدها على كل شيء، بحيث أن الكهرباء للدولة والماء للدولة. إذن على الدولة أن تضع حدا لتصرفاتها سواء كانت تصرفات السلطة أو الإدارة أو تصرفات الدولة نفسها. فمطمحنا نحن أن تكون غرفة إدارية في كل عمالة من العمالات، وكل إقليم من الأقاليم، ولكن ليس لدينا القضاة الكفاة والكافيين في هذا الباب لأن ذلك يتطلب تكوينا خاصا، وستعرفون لماذا قررنا في المرحلة الأولى ونحن ننيط هذا بكيفية خاصة إلى وزيرنا فـــي العدل أن تخلق محاكم إدارية في جميع الجهات. ولدينا سبع جهات وسنبدأ بالجهات، ويجب على الشبان في معهد العلوم القانونية أن يعلموا بأننا سنخلق محكمة في كل عمالة وإقليم. وكل عمالة أو إقليم خلقت مثل هذه المحكمة يلزمها على الأقل خمسين شخصا، لذا يجب فتح شعبة للقانون الإداري لأنني أطمح وأطلب من الله أن يحقق الطموح لأنه في غضون عامين أو ثلاث سنوات على أقل تقدير كل عمالة وإقليم يجب أن تكون فيه غرفة إدارية، وستصبح من بعد الغرف الجهوية هي غرف الاستئناف، وإذا ما لم يتم الاتفاق على استئناف هذه الجهة يمكن للمتقاضي أن يتوجه إلى غرفة أخرى، وفيما إذا وقع الخلاف فعلى المحاكم الإدارية أن تجتمع بكاملها تحت إشراف الغرفة الإدارية الموجودة بالمجلس الأعلى وتقول كلمتها النهائية، وهذا هو الإطار الحقيقي لدولة القانون».

ومن جهتها فقد استحضرت الندوات المنعقدة بمناسبة الاعداد لميثاق إصلاح منظومة العدالة أهمية الحفاظ على المحاكم الإدارية كقضاء متخصص، اعتبارا لما أبانت عنه من جودة وفعالية في الأداء القضائي كان محط تقدير وتنويه وطني ودعم دولي، تم التعبير عنه في عدة ملتقيات علمية آخرها كان بالندوة المتعلقة بالمحاكم الإدارية في مراكش بتاريخ 23 نونبر 2013.

كما كان عمل المحاكم الإدارية محل تقارير تنوه بعملها من طرف الجهات الرسمية ممثلة في تقارير المفتشية العامة لوزارة العدل، وغير الرسمية ممثلة دراسات معدة من طرف الأكاديميين الجامعيين المختصين في القانون والقضاء الإداريين ومن مؤسسات أكاديمية دولية مشخصة في مؤسسة هانس زايدل الألمانية المهتمة بشأن البحث القانوني.

لكن بالرغم من كون الإجماع بالرضى الإجتماعي على تجربة المحاكم الإدارية في بنيتها الحالية، فإن نظر اللجنة العليا لإصلاح العدالة في توصياتها ومعها واضعي مسودة مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة (صيغة 05 نونبر 2014) ومعه مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية (صيغة 12 يناير 2015)، قد غيبا الخلفية الحقوقية والمرجعية الملكية لإنشاء المحاكم الإدارية في شكل بنية متكاملة، وتجاهلا ما راكمته هاته التجربة من تميز ونجاعة، واتجها نحو تجزيء وحدة القضاء الإداري وجعله برأسين أحدهما في الهيكل البنيوي للقضاء الإداري (محاكم إدارية مستقلة بذاتها) والأخر في بنية القضاء العادي (أقسام القضاء الإداري بالمحاكم الابتدائية).

و يأتي هذا المقال لوضع المشرع البرلماني في الصورة لتحمل مسؤوليته بشأن عواقب إقراره لمشروع قانون بلقنة (تجزيء) القضاء الإداري في شكل قضاء إداري مشتت بين قضاء متخصص وموحد على شكل محاكم إدارية ومحاكم استئناف إدارية وغرفة إدارية بمحكمة النقض وأقسام للقضاء الإداري تابعة للمحاكم العادية الإبتدائية وأقسام للقضاء الإداري تابعة لمحاكم الاستئناف العادية، وذلك باعتبار البرلمان هو صاحب الاختصاص الأصيل في إصدار قانون التنظيم القضائي طبقا للفصل 71 من دستور 2011.

وسأحاول تناول الموضوع من خلال تشريح المبررات المعلنة (ظاهريا) لهاته البنية الجديدة المقترحة في مسودتي مشروعي القانون المذكورين، وذلك على ضوء المرتكزات الموضوعية بالمقارنة مع التجارب الدولية.

ومن أجل ذلك سأقوم بتقسيم الموضوع إلى محورين:

المحور الأول : المبررات المعلنة لبلقنة (لتجزيء) القضاء الإداري.
المحور الثاني : بلقنة (تجزيء) القضاء الإداري : رؤية مستقبلية.

المطلب الأول: القضاء الإداري بالمغرب بين الوحدة والبلقنة.

لا بد لكي تتضح صورة التغيير (الإصلاح) المتعلق بهيكلة القضاء الإداري بمقتضى مسودة مشروع قانون التنظيم القضائي للمملكة المزمع عرضه على أنظار البرلمان من طرف الحكومة مشخصة في وزارة العدل والحريات، من الاشارة إلى البنية الحالية للمحاكم الإدارية ثم البنية المقترحة في مشروع القانون المذكور حتى نستخلص عناصر المقارنة بينهما. 

أولا : البنية الحالية للقضاء الإداري بالمغرب : المرجعيات والمرتكزات. 

لقد انبنى التصور الملكي لصاحب الجلالة المرحوم الحسن الثاني عند إعلانه عن إحداث المحاكم الإدارية بالمغرب بمقتضى الخطاب الملكي المشار اليه اعلاه، على رؤية عميقة ودقيقة للقضاء الإداري بالمغرب من حيث الهيكل والاختصاص النوعي والمكاني والتكوين العلمي للقضاة ودور المعهد الوطني للدراسات القضائية في ذلك (المعهد العالي للقضاء حاليا)، وذلك من خلال نصه على تأسيس سبع محاكم إدارية تغطي الجهات السبع بالمملكة في أفق إحداث محكمة إدارية بكل اقليم ثم محاكم استئناف إدارية وغرفة إدارية بمحكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا) وإحداث شعبة للقضاء الإداري بالمعهد المذكور .
وهو نفس التوجه الذي سارت عليه الإرادة الملكية لجلالة الملك محمد السادس في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 15 دجنبر 1999 الذي جاء فيه « ورغبة منا في توسيع مجالات التطوير والتحديث قررنا الزيادة التدريجية في عدد المحاكم التجارية كما قررنا إحداث محاكم استئناف إدارية في أفق إنشاء مجلس للدولة يتوج الهرم القضائي والإداري لبلادنا حتى تتسنى مواجهة كل أشكال الشطط وحتى يتاح ضمان سيادة الشرعية ودعم الإنصاف بين المتقاضين».
وبذلك فإن التنظيم القضائي للمملكة في وضعيته الحالية ينبني على ازدواجية للقضاء على مستوى أول درجة وثاني درجة في التقاضي (محاكم إدارية في مقابل محاكم ابتدائية ومحاكم استئناف إدارية مقابل محاكم استئناف عادية)، ووحدة القضاء على مستوى محكمة النقض للبت في القرارات والأحكام الصادرة عن مختلف محاكم المملكة أمامها سواء كانت صادرة عن محاكم إدارية عادية أو تجارية في أفق إحداث مجلس الدولة واكتمال صرح القضاء الإداري بمختلف درجاته كما أقر ذلك الخطاب الملكي وأشار إليه دستور 2011 في فصله 114. 
هذا الدستور الذي أعطى للقضاء الإداري مكانة متميزة لم يكن يحظى بها في دستور 2011 إذ أسندت له اختصاصات جديدة بمقتضى الفصل المذكور الذي ينص على أنه « تكون المقررات المتعلقة بالوضعيات الفردية، الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة، أمام أعلى هيئة قضائية إدارية بالمملكة».
وتم التوسيع في قاعدة القضايا التي تعرض عليه للبت فيها من خلال تبني المعيار الموضوعي للطعن في القرارات الإدارية التي يمكن الطعن فيها بالإلغاء بمقتضى الفصل 118 من الدستور الذي ينص على أنه « كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يُمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة».
ونخلص من سرد هاته التوجهات الملكية والدستورية أنها كانت جد متقدمة بخصوص فلسفة ودور القضاء الإداري وبنيته وتخصصه تكوينا وممارسة، بالمقارنة مع توجهات مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي ومشروع قانون المسطرة المدنية التي تشكل تراجعات عن إرادة ملكية راسخة منذ أثر من 24 سنة.
هاته التراجعات الرامية إلى تقزيم دور القضاء الإداري وتشتيت وحدته وإجتهاداته بين قضاء إداري وقضاء عادي، وذلك بمبررات لا تصمد أمام بعد النظر العميق للمؤسسة الملكية في تصورها للسلطة القضائية في الشق المتعلق بالقضاء الإداري كما لا تصمد كذلك أمام المعطيات الموضوعية التي كشف عنها واقع الممارسة العملية.

ثانيا : المبررات المعلنة لبلقنة (تجزئة) القضاء الإداري.

كما تمت الإشارة سابقا فإن المقتضيات الواردة بمسودة مشروع قانون التنظيم القضائي ترنو إلى تجزيء القضاء الإداري إلى قطبين أحدهما متخصص بشكل كامل كما هو حال الوضع الحالي في شكل محاكم إدارية كمحاكم أول درجة ومحاكم استئناف إدارية كمحاكم ثاني درجة ثم الغرفة الإدارية بمكمة النقض، وقطب ثاني شبه متخصص يتمثل في أقسام إدارية تابعة للمحاكم الابتدائية وأقسام إدارية تابعة لمحاكم الاستئناف العادية ثم الغرفة الإدارية بمحكمة النقض.
ويأتي هذا التقسيم استنادا على مبررات كما أعلن عنها السيد وزير العدل، تتمثل أساسا في تقريب القضاء الإداري من المتقاضين و ضمان التخصص في القضاء الإداري بقضاة متخصصين بمحاكم غير متخصصة وليس محاكم متخصصة بقضاة غير متخصصين.

أ – فيما يتعلق بمبرر تقريب القضاء الإداري من المتقاضين:

إن الحاجة الماسة لمرتفقي العدالة هي تقديم الخدمة القضائية لهم، وهو ما يمكن تسميته القرب الخدماتي، أي تقديم الخدمة بجودة عالية وفي أقرب وقت لا مجرد القرب الجغرافي، خاصة وأن المعني بخدمة المحاكم الإدارية هم فئة محدودة وفي بمناسبات معينة، ومن تم فإن إنشاء أقسام للقضاء الإداري تابعة للمحاكم الابتدائية سيكون ضرره أكثر من نفعه، وذلك للاعتبارات الموضوعية التالية: 
1- ذلك أنه قبل إحداث المحاكم الإدارية فإن المحاكم العادية ابتدائية واستئنافية، كانت تبث في كل القضايا التي تبت فيها المحاكم الإدارية حاليا – ما عدا دعوى الإلغاء- والمتعلقة بالنزاعات المتعلقة ( بالضرائب، نزع الملكية، المعاشات، الانتخابات، المسؤولية إدارية ... إلخ)، وبالتالي فإن نفس الفلسفة التي حدت بالمشرع لسحب هاته الاختصاصات من المحاكم الابتدائية وإنشاء محاكم إدارية للبت فيها هي نفسها التي تفرض عدم المجازفة وإسنادها للأقسام (المتخصصة) التابعة للمحاكم الابتدائية، لأن ذلك سيكون مجرد اجترار لتجربة قضائية اثبتت عدم نجاعتها وبعدها الوظيفي وإن كانت توصف بالقرب الجغرافي.
2- لقد أثبت الواقع القضائي أن المتقاضين يفضلون اللجوء للمحاكم الإدارية رغم بعدها الجغرافي بدل اللجوء للمحاكم الإبتدائية رغم قربها الجغرافي، وذلك بالنسبة للقضايا التي استند المشرع لكلا الجهتين البت فيها معا، كما هو الحال في بعض المنازعات الإنتخابية، مما يتضح معه بأن هاجس القرب الجغرافي لا يشكل أولوية لدى المتقاضي، بقدر ما يهمه الحصول على خدمة قضائية في أقرب وقت وبجودة عالية.
3- لم يعد لعامل القرب الجغرافي تلك الأهمية البالغة ما دام أن مسطرة التقاضي امام المحاكم الإدارية هي مسطرة كتابية ويلزم للتقاضي أمامها تنصيب محامي للتقاضي طبقا للمادة 3 من قانون المحاكم الإدارية، وبالتالي فإن المعلومة والإجراء القضائي يكون متاحا للمتقاضي بواسطة محاميه دون عبرة للبعد الجغرافي عنه، كما أن هذا العامل سيندثر بحكم تطور المواصلات والاتصالات وخاصة مع مشروع المحكمة الرقمية الذي خطت فيه المحاكم الادارية خطوات جد متقدمة، وبالتالي فإن المعلومة القضائية يمكن الوصول اليها من محل السكن أو العمل دون تنقل اصلا.
4- إن مشروع الجهوية الموسعة ب 12 جهة يستلزم إنشاء محاكم إدارية على رأس كل جهة اعتبارا لما سيترتب عن انشاء وحدات ادارية جديدة بمقتضى التقسيم الجهوي والترابي الجديد من نزاعات إدارية مختلفة، وبالتالي يتعين إنشاء وحدات للقضاء الإداري (محاكم إدارية) موازية للوحدات الإدارية للجهات (ولايات، مديريات جهوية). 
5- كما أن التجربة أثبتت أن تشتيت الهيئات القضائية بمبرر تقريب القضاء من المتقاضين قد أثبت فشله في فترة وجيزة من الزمن، ومثال ذلك إحداث غرف جنحية إستئنافية بالمحاكم الإبتدائية سنة 2011 خلقت بلبلة لدى المتقاضي والدفاع على السواء، مما دفع مشروع قانون التنظيم القضائي ومشروع قانون المسطرة الجنائية إلى الاستغناء عنها. 
أ – فيما يتعلق بمبرر ضمان التخصص بقضاة متخصصين بمحاكم غير متخصصة بدل قضاة غير متخصصين بمحاكم متخصصة:
إن هذا المبرر قد جاء على لسان السيد وزير العدل والحريات في مناسبات عديدة أثير فيها النقاش حول تخصص المحاكم والقضاة سواء في ندوات علمية أو حوارات صحفية أو امام البرلمان.
إلا أنه مبرر رغم أن صياغته من الناحية اللغوية ذات محسنات بديعية من سجع وطباق، إلا أنه من الناحية العملية يحمل مؤشرات هشاشته بين طياته، لكون تخصص القضاة أمر يسير يمكن ضمانه بالمحاكم الإدارية بشكل سلسل ومستمر بتحديد معايير خاصة للتعيين بهاته المحاكم تراعي التخصص على مستوى الشواهد العلمية والرغبة في العمل بهاته المحاكم وتوفير تكوين مستمر وممنهج ودورات تدريبية بمؤسسات وطنية وخارج الوطن كما كان عليه الحال مع الرعيل الأول والثاني من قضاة المحاكم الإدارية، والذي اسفر عن كفاآت قضائية لفقهاء في القانون والقضاء الإداريين ومسؤولين قضائيين ذوي حنكة عالية في الإدارة القضائية اكتسبوها عبر تكوينات وتداريب وطنية ودولية. وهي التجربة التي وفر المرحوم الملك الحسن الثاني شروط نجاحها من خلال توجيهاته بالخطاب الملكي المشار إلى نصه أعلاه، ومن خلال دعمه لتكوين قضاة المحاكم الإدارية وتدريبهم بالخارج.
كما أن هذا المبرر لم يصمد منذ الوهلة الأولى لتبنيه نظريا من طرف وزارة العدل، ذلك أن توجهات المجلس الأعلى للقضاء - والذي يعتبر السيد وزير العدل رئيسه بالنيابة - ، في دوراته المتعلقة بنقل وتعيين القضاة بمناسبة الشطر الثاني من دورة أبريل 2013، تم اقتراح نقل 08 قضاة من النيابة العامة وقضاة الحكم من المحاكم الابتدائية وتعيينهم بالمحاكم الإدارية دون اعتماد لمعيار التخصص في القضاء الإداري أو حتى اشتراط تكوين جامعي في هذا التخصص، وهو ما تم تكريسه في الشطر الأول من دورة ماي 2014 للمجلس المذكور، كما تم اقتراح تعيين قضاة بالمحاكم الإدارية بمجرد تخرجهم من المعهد العالي للقضاء دون أي تكوين أو شهادة جامعية في مجال المنازعات الإدارية أو حتى رغبتهم في العمل بهاته المحاكم، كما تم في الشطر الثاني من دورة ماي 2014 تعيين رؤساء للمحاكم المتخصصة إدارية (المحكمة الإدارية بوجدة) وتجارية (المحكمة التجارية بفاس) دون أية تجربة في القضاء المتخصص المعني بالتعيين وهو ما يخالف قواعد التدبير الإداري المرتكزة على القيادة الإدارية والحكامة في التسيير من منطلق التخصص أولا. (هذا بالطبع دون أدنى تشكيك في كفاءة هؤلاء القضاة والمسؤولين القضائيين في مجال تخصصهم العلمي والقضائي).
وهكذا فإن التخصص على المستوى القضائي على أهميته ونجاعته إذا تم بمعايير محددة ودقيقة، فإن توظيفه لتبرير تجزئ القضاء الإداري بإحداث أقسام متخصصة في القضاء الإداري تابعة للمحاكم الابتدائية يظل مبررا نظريا لم يصمد أمام الممارسة العملية لوزارة العدل نفسها، ذلك أنه لم يتم الركون إليه حتى في التعيين في المحاكم الإدارية القائمة فما بالك بمجرد أقسام القضاء الإداري التابعة للمحاكم العادية.
كما ان وزارة العدل وبمناسبة مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة رقم 106.13 فإنه لم يتم اعتماد أي مقتضى يؤسس لمبدأ تخصص القضاة الذين يعينون في المحاكم الإدارية أو أقسام القضاء الإداري، بل أنه فتح الإمكانية لتعيين قضاة النيابة العامة قضاة للحكم وهو ما يعبث بمبرر التخصص المدعى به بالنسبة للقضاء الإداري، وذلك بخلاف ظهير 30 شتنبر 1993 الذي كان ينص على تخصص قضاة المحاكم الإدارية سواء على مستوى الشواهد المطلوبة لولوج المعهد الوطني للدراسات القضائية أو على مستوى التعيين عند التخرج من المعهد المذكور (لمزيد من التفصيل أنظر الهامش رقم 3).
بعد محاولة سرد مدى وجاهة مبررات تجزيء القضاء الإداري إلى بنيتين برأسين مختلفين، نتطرق في النقطة الثانية لعواقب تبني البرلمان لمشروع تقسيم القضاء الإداري على أداء هذا القضاء وعلى المتقاضين على السواء.

المطلب الثاني : بلقنة القضاء الإداري : رؤية مستقبلية 

استنادا إلى هشاشة مبررات تجزئ القضاء الإداري امام صلابة مبررات الحفاظ على وحدته مع ضرورة تفعيل دور هذا القضاء ودعمه، فإن إقرار هذا التجزيء من قبل البرلمان ستترتب عنه عواقب عملية وقانونية ستفقده بريقه الذي راكمه لمدة تزيد عن 20 سنة بإقرار مختلف المهتمين. لذلك سنعرض لمظاهر العواقب المحققة إذا ما تم التراجع عن وحدة القضاء الإداري بتقسيمه إلى بنيتين مختلفتي التنظيم الإداري.

- أولا: عواقب بلقنة البنية الهيكلية للقضاء الإداري

إن إقرار المقتضيات المتعلقة بالقضاء الإداري في شكل محاكم إدارية مستقلة بذاتها وأقسام للقضاء الإداري تابعة للمحاكم الإبتدائية، سيخلخل نظام التنظيم القضائي، الذي يتعين أن يشكل نسقا منسجما للوحدات (المحاكم) التي تندرج في إطاره، وسيشكل تراجعا غير محسوب العواقب عن مكسب أسست له الرؤيا العميقة والرشيدة لجلالة الملك المرحوم الحسن الثاني منذ أزيد من 24 سنة بمقتضى الخطاب الملكي للمرحوم الحسن الثاني بتاريخ 08 ماي 1990، والذي رسم مسارا ممنهجا للمحاكم الإدارية، يتمثل في محكمة على رأس كل جهة ثم إحداث محاكم استئناف إدارية بتكوين متخصص على صعيد المعهد القضائي، وهو ما أكده جلالة الملك محمد السادس في الرسالة الملكية الموجهة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 15 دجنبر 1999، الذي قرر فيه إحداث محاكم استئناف إدارية في افق انشاء مجلس الدولة. 
وبالتالي فكل انحراف عن هذا التوجه الملكي القويم، سيترتب عنه عدة صعوبات على مستوى تدبير الموارد البشرية وعلى مستوى العمل القضائي حسب التفصيل التالي:

1- صعوبة توفير وتدبير الموارد البشرية المتخصصة: إن توفير الموارد البشرية المتخصصة للمحاكم الإدارية من جهة وأقسام القضاء الإداري من جهة أخرى (بالصيغة الواردة في مسودة مشروع التنظيم القضائي) ستعترضه عدة صعوبات وتعقيدات على مستوى الممارسة القضائية والإدارية، ذلك أن إنشاء اقسام متخصصة للقضاء الاداري على مستوى عدد من المحاكم الابتدائية أو أغلبها وأقسام استئناف إدارية بعدد من محاكم الاستئناف العادية، والحال أن عدد القضاة بشكل عام والقضاة المتخصصين في القضاء الإداري بشكل خاص، يعرف خصاصا بمختلف المحاكم حسب إحصائيات وزارة العدل بتاريخ 22/07/2013 (حوالي 29 قاض بمحاكم الاستئناف الإدارية و 94 قاض بالمحاكم الإدارية)، مما سيؤدي لا محالة إلى الاستعانة بالقضاة في تخصصات أخرى لتغطية العمل بأقسام وغرف القضاء الإداري، مما سيؤثر على جودة الخدمة القضائية باعتبار أن القضاء الاداري يحتاج إلى تراكم معرفي في المادة الإدارية والاستعانة بالقضاة ذوي التجربة لتوحيد العمل القضائي باعتبار أن القانون الإداري نفسه هو قانون قضائي ودور القاضي الإداري هو دور انشائي متطور. 

2- زعزعة الأمن القضائي والقانوني: إن تبني هيكلة للقضاء الاداري برأسين أحدهما يصب في المحاكم الإدارية والأخر في المحاكم الابتدائية سيؤدي لا محالة إلى اضطراب على مستوى العمل القضائي وعدم انسجامه وتوحده، باعتبار اختلاف تكوين الهيئات القضائية بين محكمة وأخرى، خاصة وأن النوازل القضائية في المادة الإدارية ذات طابع خاص يتميز بالدقة والتنوع كما أن القاضي الإداري له دور إنشائي ومؤسس للقواعد العامة المعتبرة بمثابة القانون. وأنه في خضم تجزئ القضاء الإداري بالشكل المومأ إليه أعلاه، سيجعل من الصعب تصور توحيد للاجتهاد القضائي الإداري بالتالي استحالة التأسيس للمبادئ العامة للقانون، مما سيؤثر على الأمن القانوني والقضائي لدى المتقاضين.
وكمثال على ذلك إذا ما عرضت قضايا متشابهة على المحاكم الإدارية وأقسام القضاء الإداري، فإنه سيتم استئناف الحكم الصادر بشأنها من طرف المحكمة الإدارية أمام محكمة الاستئناف الإدارية بينما تلك التي تم البت فيها من طرف قسم القضاء الاداري بالمحكمة الإبتدائية فتستأنف أمام قسم القضاء الإداري بمحكمة الاستئناف العادية، وهو مما سيترتب عنه لا محالة تضارب في الاجتهاد القضائي في مادة هي في أمس الحاجة إلى توحيد الاجتهاد القضائي الذي يشكل قواعد قانونية قائمة الذات ويجب أن تكون عامة ومجردة.

3- إشكالية البت في الخطأ القضائي : إن اقرار دستور 2011 في فصله 122 لحق المتقاضي المتضرر من خطأ قضائي، المطالبة بالتعويض مع إسناد هذا الاختصاص للقضاء الإداري، سيؤدي لا محالة إلى تكاثر هذا النوع من القضايا أمام القضاء الإداري، ومن تم تثار مسألة مدى ملائمة بت قسم القضاء الإداري تابع لمحكمة ابتدائية في خطأ قضائي لرئيس نفس المحكمة أو خطأ قضائي لهيأة قضائية بنفس المحكمة، خاصة وأن مجال الخطأ القضائي يتسع بالنسبة للقضايا المعروضة على المحاكم العادية (ابتدائية واستئنافية) عنه في المحاكم الإدارية.

4- مشكل تحديد الاختصاص الترابي: إن تضخم الوحدات الإدارية بعد التقسيم الترابي المرتقب على إثر الجهوية الموسعة، سيترتب عنه مشكل تحديد الاختصاص الترابي بين المحاكم الإدارية والأقسام المتخصصة للقضاء الإداري التابع للمحاكم الابتدائية.
إضافة إلى ذلك نلاحظ أنه في نفس الوقت الذي توجه واضعي مشروع قانون التنظيم القضائي إلى تقسيم وحدة القضاء الإداري بما يعتري ذلك من نواقص وعيوب وآثار سلبية، نجد أن النظام القضائي لبلدان مجاورة قد خطى خطوات جد متقدمة في بناء صرح لقضاء إداري موحد في إطار ازدواجه القضاء (عادي/ إداري)، ففي دولة الجزائر فإنه تم إحداث منظومة للقضاء الإداري موحد ومكتمل الدرجات القضائية، فهو يتكون من محاكم إدارية متخصصة (30 محكمة) ومجلس للدولة (1998) الذي يبدي رأيه حتى في مشاريع القوانين قبل تفحصها من قبل مجلس الوزراء، وكذا محكمة للتنازع للبت في تنازع الاختصاص بين جهة القضاء الإداري والقضاء العادي.
أما في تونس فقد تم تنظيم القضاء الإداري بواسطة التقعيد الدستوري بمقتضى الفصل 116 من دستور 2014، والذي خصه بمنظومة قائمة الأركان ذات استقلالية فريدة من نوعها، فهو يتكون من محكمة إدارية عليا ومحاكم استئناف إدارية ومحاكم إدارية، ويتبع في تنظيمه الإداري لرئاسة الحكومة بخلاف القضاء العدلي (القضاء العادي) الذي يتبع تدبيره الإداري لوزارة العدل.
هكذا نخلص إلى أن أي إجهاز على مكسب القضاء الإداري في وحدته وتخصصه واستقلاليته، يعتبر تراجعا عن توجهات ملكية جد متقدمة يزيد مداها عن عقدين من الزمن، ويشكل نشازا عن التجارب القضائية المقارنة (فرنسا- تونس- الجزائر- ومصر)، وضربا لمبدأ المساواة بين المتقاضين وحق نظر قضاياهم بواسطة قضاء متخصص على حد سواء.
لهذا فإن التنظيم القضائي بالمملكة هو في حاجة إلى ضبط هياكله بشكل يكرس ازدواجية للقضاء (إداري/عادي)، وتوحيد القضاء الإداري بإيجاد صيغة ومقاربة تتماشى والتنظيم الإداري القائم على الجهوية المتقدمة المرتقبة. 
ثانيا : مقترحات لضمان وحدة القضاء الإداري ونجاعته
تمشيا مع الإرادة الملكية في خطب متعددة والتي أعطت عناية خاصة لتخصص القضاء بالمغرب ومنه القضاء الإداري، رغبة منها في ضمان النجاعة القضائية وحماية الحقوق والحريات واستكمال صرح دولة الحق والقانون. وتفاديا لإهدار تجربة هاته المحاكم وتميز أدائها على مستوى الشكل والجوهر، خاصة وأن نموذج الاقسام التابعة للمحاكم على مستوى قضاء الأسرة وقضاء القرب لم تعط النتائج المرجوة منها على مستوى التدبير الإداري لغياب مسؤول إداري فيما يخص الهيئة القضائية وهيئة كتاب الضبط، فالكل يسير ولا أحد مسؤول، مما انعكس سلبا على التدبير اليومي للقضايا والإجراءات، حسب ما كشفت عنه الممارسة العملية بهاته الأقسام.
ونظرا لأن منظومة القضاء الإداري بالمملكة المغربية قائمة الذات منذ عشرين سنة، وتتوفر على جميع هياكلها من محاكم وتجهيزات وموارد بشرية من قضاة وموظفين، وكونها محط إشادة من طرف رجال القانون ومختلف الهيئات الوطنية والدولية، فإن أي مساس بهيكلته الحالية سيؤثر على الأداء المهني لهذا القضاء ودوره في المجتمع، خاصة وأن وظيفته ذات أثار اقتصادية واجتماعية. 
لذلك فإن المشرع البرلماني مدعو إلى الحفاظ على هذا الرصيد من المكتسبات التي راكمها هذا القضاء المتخصص وتشجيعه للاستمرار في إشعاعه الوطني والدولي، و نقترح لذلك الإجراءات التالية: 

1- العمل على استكمال بناء صرح القضاء الإداري بإنشاء مجلس الدولة كما هو الحال في الدول العربية الحديثة العهد بالمؤسسات، مع إدخال التعديلات اللازمة بعد استشارة الممارسين في القضاء الإداري.
2- إحداث شعبة للقضاء الإداري بالمعهد العالي للقضاء يتم حصر ولوجها على الملحقين القضائيين الحاملين لشواهد عليا في مجال القضاء الإداري.
3- تنظيم دورات تدريبية سنوية لقضاة المحاكم الإدارية بالمؤسسات العامة والخاصة خارج وداخل المغرب ودورات للتكوين المستمر كل ستة أشهر ببرامج ومنهج محدد سلفا.
4- إنشاء بنك لقاعدة المعطيات القانونية والقضائية يتضمن مختلف القوانين والاجتهادات القضائية الوطنية والمقارنة، المتعلقة بالمجال الإداري وكل الأحكام الصادرة عن المحاكم الادارية ومحكمة النقض، وإمكانية الاطلاع عليها وطلبها إلكترونيا. 
5- تفعيل دور مؤسسة المفوض الملكي بتمكينه من حق الاستئناف ضمانا للنجاعة القضائية.
6- إقرار مقتضيات تأديبية وزجرية في حال التأخير أو الامتناع غير المبرر عن تنفيذ الأحكام الصادرة عن القضاء الإداري.
7- الزيادة في عدد المحاكم الإدارية بشكل ينسجم والتقسيم الجهوي المرتقب، بإنشاء محكمة إدارية على مستوى كل جهة من جهات المملكة، ومحكمة استئناف إدارية في كل من الرباط، فاس ومراكش. 

خاتمة : 

نخلص من سرد نقط هذا المقال إلى أن تقسيم القضاء الإداري إلى قطبين موحدي الموضوع مختلفي الهيكلة، سيؤدي إلى عدة آثار سلبية على مستوى تدبير مرفق القضاء الإداري و على مستوى أداء قضاة المحاكم الإدارية وثقة المتقاضين في هذا القضاء.
لذلك فإن واضعي مسودة مشروع قانون التنظيم القضائي والبرلمان مدعوون إلى اعادة النظر في هذا التوجه الرامي إلى بلقنة القضاء الإداري، واتخاذ الاجراءات الكفيلة بدعمه تمشيا مع التوجهات الملكية والتجارب المقارنة.
فلا يعقل أن يتم التراجع عن توجيهات ملكية واضحة ومستمرة بعد أكثر من 20 سنة لإقرارها، وعيا بمقومات دولة الحق والقانون، التي يشكل القضاء الإداري أحد أهم مرتكزاتها.
« فيا أيها المشرعون أمانة القضاء الإداري بين أيديكم فلا تضيعوها »



الاربعاء 1 أبريل 2015

تعليق جديد
Twitter