MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية



القاضي المدني واستثناءات مبدأ الحياد بقلم ذ عفيف البقالي

     

ذ.عفيف البقالي القاضي
عضو نادي قضاة المغرب
باحث بجامعة عبد المالك السعدي بطنجة



القاضي المدني واستثناءات مبدأ الحياد بقلم ذ عفيف البقالي
 
لا ريب أن حياد القاضي أساس متين في البنيان القانوني للدعوى و لبنة أساسية في التشريع الإجرائي والنصوص المسطرية، فجلها وضعت لضمان الحياد لكي لا يتحول القاضي إلى حكم و خصم في نفس الآن فتختل موازينه تبعا لاختلاف "وزن" الخصوم و يصبح طرفا منضما يساند خصما على حساب الآخر .

ولتجنب كل ذلك كان لا بد للمشرع من وضع ضمانات تفرض ابتعاد القاضي عن سياسة الكيل بمكيالين و ترجيح كفة احد الاطراف  ...فكان من الضروري أن يتدخل القانون الإجرائي في تطبيق القانون الموضوعي صونا للحقوق وضمانا للمساواة أمام القضاء .

فكم هي كثيرة النصوص الإجرائية التي تضمن حياد القاضي، لعل أهمها تلك المتعلقة بتجريح القضاة و قواعد الإختصاص الإستثنائية وتقيد المحكمة بطلبات الخصوم .

لكن حياد القاضي في بعض الاحيان قد يصبح عبئا على العدالة ، و يتحول من وسيلة للعدل إلى أداة للظلم وطريقا معبدة للطرف القوي لسلب حقوق خصمه أمام أنظار القاضي وبمباركة منه ، فيغلف الظلم بغلاف الحياد و المساواة ليكتسي شرعية قانونية و قضائية .لهذا كان من الطبيعي و البديهي أن يضع المشرع استثناءات لمبدأ الحياد تتيح  للقاضي أن يتخلى عن حياده السلبي ويتدخل بشكل إيجابي يضمن إعطاء كل ذي حق حقه ، فما هي مظاهر خروج القاضي المدني عن مبدأ الحياد؟

كما سبقت الإشارة فإن القاضي  يقف متفرجا على مقارعة الحجج و تبادل الطلبات والدفوع، دون ان يتدخل في مساندة احد الأطراف سواء في الإثبات او في إثارة نقط قانونية ترجح كفته وتقوي مركزه ، لكن لهذه القاعدة استثناءات تتيح للقاضي في بعض الاحيان التدخل في صنع الدليل تارة و اثارة بعض النقط القانونيا تلقائيا تارة أخرى .

و قد ارتأينا  تخصيص فقرة لكل استثناء دون التقيد بتصميم معين حتى لا نقيد الأفكار، فنناقش بحرية بعيدا عن سجن المنهجية ،والتي تفرض في كثير من الأحيان تشويه المضمون خدمة للشكل .

الفقرة الأولى : الغرامة التهديدية

تعد الغرامة التهديدية -باعتبارها وسيلة لإجبار المحكوم عليه لتنفيذ الالتزام بعمل أو الإمتناع عن عمل -صنيعا خالصا للقضاء الفرنسي ، بحيث لجأ إليها غي غياب نص قانوني يسمح باللجوء إلى الغرامة التهديدية فكان القضاء يحكم بها تحت ستار التعويضات .
وهكذا ظهرت الغرامة التهديدية لاول مرة في حكم لمحكمة cray في25 مارس 1811 ، ولم يتم تقنينها في فرنسا إلا في سنة 1972 ، ثم وضع بعد قانون رقم 650 لسنة 1991 والذي فصل بين الغرامة و التعويض .
أما المشرع المغربي فقد نص على الغرامة التهديدية في الفصلين 11 و 488 ق م م. فأشار إليها عرضا في الفصل الأول عند تنصيصه على الإختصاص الإنتهائي للمحكمة بينما خصص الثاني لإختصاص رئيس المحكمة في الحكم بالغرامة التهديدية . لكن هل يمكن من خلال الفصلين السالفين القول أن نظام الغرامة التهديدية في التشريع المغربي يتيح للقاضي المدني التخلي عن حياده ؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي منا طرح تساؤلين آخرين : هل يمكن للقاضي المدني ان يحكم بالغرامة التهديدية تلقائيا ؟ ثم ما هي الطبيعة القانونية للغرامة التهديدية ؟

أولا : مدى إمكانية الحكم بالغرامة التهديدية تلقائيا

بالرجوع إلى التشريع الفرنسي و بالضبط إلى المادة 1/33 من القانون رقم 650 لسنة 1991 نجدها تنص على أنه يمكن لكل قاض الأمر بالغرامة التهديدية و لو من تلقاء نفسه لضمان تنفيذ حكمه .
لكن بالرجوع إلى التشريع المغربي لا نجد نصا بمثل هذا الوضوح خصوصا بالنسبة لمحكمة الموضوع . فالمادة 11 من قانون المسطرة المدنية  تنص على أنه" يحدد الإختصاص النهائي استنادا إلى مبلغ الطلب المجرد الناتج عن آخر مستنتجات المدعي باستثناء الصوائر القضائية و الفوائد القانونية و الغرامات التهديدية" .
بينما المادة 448 من نفس القانون تنص على انه : "إذا رفض رفض المنفذ عليه اداء إلتزام بعمل او خالف إلتزاما بالإمتناع عن عمل أثبت عون التنفيذ ذلك في محضره و اخبر الرئيس الذي يحكم بغرامة تهديدية ما لم يكن سبق الحكم بها ".
وبمقارنة بسيطة بين الفصلين أعلاه يتضح بأن الفصل 11 من قانون المسطرة المدنية المتعلق بمحكمة الموضوع يربط الغرامة التهديدية بطلبات الخصوم و لا يتضمن أية إشارة لإمكانية حكم المحكمة تلقائيا بها بينما الفصل 448 يتيح لرئيس المحكمة الحكم بالغرامة التهديدية بمجرد رفض المنفذ عليه للتنفيذ و بدون ان يطلب ذلك طالب التنفيذ .
 لكن رغم وضوح ظاهر الفصل 448 من ق م م الذي يفيد إمكانية الحكم التلقائي بالغرامة التهديدية إلا ان توجه المحكمة الإبتدائية بالدار البيضاء يذهب إلى خلاف ذلك ،بحيث يصدر قاضي المستعجلات الامر بالغرامة التهديدية بناء على مقال مستوف لكافة الشروط القانونية يتقدم به المحكوم لفائدته حيث يصدر القاضي المذكور امره بالغرامة التهديدية بعد استدعاء كاتب الضبط في جلسة علنية .
ومن ثم يتضح أن توجه المحكمة الإبتدائية بالدار البيضاء ، يقضي بعدم إمكانية الحكم بالغرامة التهديدية تلقائيا و إنما يتطلب الحكم بها طلبا . وبهذا يكون هذا التوجه قد حمل الفصل 448 ما لا طاقة له به .
وإذا كان يمكن قبول توجه المحكمة الإبتدائية بالدار البيضاء في ظل مقتضيات الفصلين 11 و 3 من قانون المسطرة المدنية بحيث سكت الاول عن إمكانية حكم المحكمة تلقائيا بالغرامة التهديدية بينما قيد الثاني المحكمة بطلبات الاطراف ، فإن ذلك يقتصر على محكمة الموضوع و لا يشمل رئيس المحكمة لان النص الواجب التطبيق في هذه الحالة هو الفصل 448 الذي يتيح له ان يحكم تلقائيا بالغرامة التهديدية بمجرد ان يحيل عليه عون التنفيذ محضر الإمتناع عن التنفيذ .
وفي الحقيقة فإن توجه المحكمة الإبتدائية بالدار البيضاء له ما يبرره في قرارات المجلس الأعلى –سابقا-و التي تخلط بين الغرامة التهديدية و التعويض إذ أن هذا الخلط بينهما هو الذي يفرض على القاضي التقيد في حكمه بالغرامة التهديدية بطلبات الخصوم .
وهذا ما سنوضحه من خلال تحديد الطبيعة القانونية للغرامة التهديدية .

ثانيا: الطبيعة القانونية للغرامة التهديدية

كما سبقت الإشارة فإن الغرامة التهديدية من صنيع القضاء الفرنسي الذي كان يلجأ إليها تحت ستار التعويضات في ظل غياب نص قانوني يتيح للقاضي الحكم بالغرامة التهديدية .
و من ثم فالخلط بين التعويض و الغرامة التهديدية لم يكن نتيجة سوء فهم أو تفسير للنصوص،لأن النصوص المتعلقة بالغرامة التهديدية لم تكن موجودة أصلا ، ومن ثم فهذا الخلط هو مجرد حيلة قضائية للحكم بالغرامة التهديدية في ظل غياب النص.
لكن في سنة 1972 عرف التشريع الفرنسي تحولا مهما يتجسد في تقنين الغرامة التهديدية ليفصل بذلك الغرامة التهديدية عن التعويض وليجد القضاء الفرنسي اساسا قانونيا يستند عليه في أحكام الغرامة التهديدية ،الأمر الذي سيعززه القانون رقم 650 لسنة 1991  الذي فصل نهائيا بين الغرامة التهديدية و التعويض .
و يتضح هذا الفصل من خلال العناصر التي حددها قانون 1991 في تصفية الغرامة التهديدية إذ تنص المادة 1/36 على ان مبلغ المؤقتة يصفى بالأخذ في الاعتبار سلوك الصادر ضده الأمر و الصعوبات التي واجهها في تنفيذ الحكم .
ومن ثم يبدو أن تصفية الغرامة التهديدية لا يتم انطلاقا من الضرر الذي لحق طالب التنفيذ وإنما إنطلاقا من مدى التعنت في التنفيذ .وهكذا يتضح أن الغرامة التهديدية ليس تعويضا .
وبرجوعنا إلى بعض اجتهادات المجس الأعلى سابقا يتضح أنه يعتبر الغرامة التهديدية تعويضا و انه يتعين تبعا لذلك تصفيتها استنادا للضرر اللاحق بطالب التنفيذ ، إذ جاء في قرار عدد124 الصادر بتاريخ 10/01/2001  ان الغرامة التهديدية وسيلة إجبار على التنفيذ تؤول في حالة الإمتناع عن التنفيذ إلى تعويض عن الضرر الناتج عن ذلك بطلب تصفيتها .
كما جاء في قرار آخر عدد 144 صادر بتاريخ 23/05/1980 انه يجب على المحكمة في تصفية الغرامة التهديدية ان تبين عناصر الضرر التي اعتمدتها لتقدير التعويض .
وإذا كان المجلس الاعلى سابقا يستند فقط على الضرر كمحدد اساسي في تصفية الغرامة التهديدية فإن محكمة النقض حاليا قد اقتربت من توجه التشريع الفرنسي رغم انها ما زالت تعتبر الغرامة التهديدية تعويضا ، إذ جاء في قرار عدد 537 صادر بتاريخ 01 نونبر 2012  :" الغرامة التهديدية هي وسيلة لإجبار المنفذ عليه على تنفيذ التزامه ، تؤول حين تصفيتها إلى تعويض يحكم به لفائدة المستفيد من التنفيذ ، والتعويض المذكور لا يشمل فقط الضرر الناتج عن عدم التنفيذ أو التاخر في ذلك و الذي يمكن المطالبة به في إطار القواعد العامة للمسؤولية دون حاجة إلى المرور عبر مسطرة تحديد الغرامة التهديدية ، بل كذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار مبلغ الغرامة المحدد في الحكم الآمر بها و تعسف المنفذ عليه و تعنته في التنفيذ ...."
و نعتقد انه يجب الفصل نهائيا بين الغرامة التهديدية و التعويض ،فالغرامة ليست وسيلة لجبر الضرر بقدر ما هي آلية قانونية لفرض احترام أحكام القضاء و الحفاظ على هيبته ، كما ان المشرع المغربي هو الآخر قد فصل بين الغرامة التهديدية و التعويض في الفقرة الأخيرة من الفصل 448 من قانون المسطرة المدنية إذ أتاح للمستفيد من الحكم الجمع بينهما .
وهكذا إذا اعتبرنا الغرامة التهديدية وسيلة لفرض احترام احكام القضاء فإنه يمكن للقاضي ان يتخلى عن حياده عند الحكم بها .

الفقرة الثانية : القضايا المتعلقة بالنظام العام

يكتسي النظام العام صورا عدة و يتفرق إلى ألوان متعددة ، وهكذا نجد النظام العام الاقتصادي و النظام العام الإجتماعي ،و هذا التعدد يزيد مفهومه غموضا و تحديده تعقيدا ، و من ثم لا يمكن حصر نطاقه أو تعريفه في حفنة كلمات و بضع  عبارات، لانه مفهوم مطاط لا تقو اللغة على تجسيده و لا تقدر التعاريف على تحديده ، فهو أوسع لا ريب.
لكن رغم كل هذا و ذاك ، فيمكن للباحث ان يتحرى مظاهره و يتعقب آثاره في شتى المواضيع و المجالات المختلفة ، إلا انه إذا كانت هذه المظاهر تبدو واضحة جلية في بعض المجالات كما هو الشأن بالنسبة للقانون الجنائي فإنها ليست بنفس القدر من الوضوح في مجالات اخرى كالقانون المدني .
لهذا يبدو مرهقا تتبع مظاهر النظام العام خارج إطار القانون الجنائي ، إذ يتعين قراءة النصوص بتمعن للتمييز بين القواعد الآمرة و المكملة ولتحديد مجالات تدخل القاضي تلقائيا دون طلب أحد الأطراف .كما قد يتدخل المشرع بنص صريح على اصباغ صفة النظام العام على قانون معين او مقتضى قانوني خاص مثل ما هو الحال بالنسبة لظهير 06/02/1963 المتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل (الفصل 347). و في الحالة التي لا ينص فيها القانون صراحة على ذلك فقد دأب الفقه و القضاء على اعتبار قانون ما كلا أو جزء من النظام العام كلما صيغت مبادئه بعبارات ملزمة و آمرة  و رتب على مخالفتها البطلان أو عقاب جنائي بالغرامة أو الحبس.
وهكذا فإنه يتعين على القاضي ان يتدخل في  القضايا المتعلقة بالنظام العام فيثير من تلقاء نفسه كل ما يرتيط به حتى لو لم يثره الاطراف  ، لان الامر لم يعد يتعلق فقط بمصالحهم الخاصة و من ثم لا يحق لهم التنازل ضمنيا عن طريق إغفال إثارة  القواعد لقانونية المرتبطة بالنظام العام سواء كانت موضوعية او إجرائية .
ومن ثم يمكن للقاضي ان يحكم بأكثر مما طلب منه في تعويضات حوادث الشغل ، كما يتعين عليه ان يرفع مبلغ الاجرة المستحقة للأجير لتتناسب و الحد الادنى الاجر إذا كانت أقل ، كما يمكنه ان يتدخل لتعديل المبلغ المستحق بمقتضى الشرط الجزائي ....
وإذا كانت القضايا الموضوعية المرتبطة بالنظام العام تشكل استثناء في القانون الموضوعي فإن الإستثناء ينقلب إلى قاعدة في مجال التقاضي ، فيحق للقاضي ان يثير من تلقاء نفسه أغلب القواعد المنظمة للتقاضي مثل الصفة و الأهلية و المصلحة و الإختصاص النوعي و آجال الطعن .

الفقرة الثالثة : اليمين المتممة

يقصد باليمين المتممة اليمين التي يوجها القاضي لأحد اطراف الدعوى لإتمام الدليل الناقص، ولهذا سميت بالمتممة ،إذ يؤمر بها من أجل تكملة حجة أدلي بها تراها المحكمة غير كافية في إثبات الوقائع و التصرفات المراد إثباتها ، فتكون بذلك وسيلة يلتجئ إليها لإقامة الإثبات.
ومن ثم فإن القاضي يتدخل في صنع وسيلة الإثبات لفائدة من كان دليله ناقصا ، ليتخلى بذلك عن حياده و يرجح كفة طرف على آخر و يتدخل بشكل إيجابي في الخصومة .لهذا فهي استثاء على مبدأ حياد القاضي، لذلك يتعين التعامل معها بحذر فلا يجب التوسع في الإستثناء .
كما أن المقتضيات القانونية لليمين المتممة لا تؤتي ثمارها في التطبيق العملي إلا على يد قضاة مشهود لهم بالثقة و التروي و الأناة في الفصل في القضايا في غير تعجل ، مع الحرص على تحري كل دقائق الدعوى المعروضة على المحكمة ووقائعها و جزئياتها.
و من ثم فاليمين المتممة شرعت لعلاج مساوئ حيدة القاضي ، فلا يمكن ان يقف القاضي دائما متفرجا على الخصوم دون  نصرة للحق او تحقيق للعدالة التي قد يخذلها الدليل في كثير من الأحيان ، فكان لزاما ان يتدخل إجرائيا فيوجه اليمين المتممة عندما يرى ان هذا الإجراء ضروري للكشف عن الحقيقية الواقعية فتطابق الحقيقة القانونية و القضائية ..
ولما كانت اليمين المتممة تدخل من القاضي في الخصومة ، فإنه لا يمكن للخصم ردها  للطرف الآخر لانه لم يوجهها ولأن القاضي ليس خصما في الدعوى ، فهو لم يتخلى عن حياده مطلقا و إنما فقط بالقدر الكافي الذي يتيح له الكشف عن الحق وفي إطار الصلاحيات المخولة له قانونا طبقا للفصل 87 من قانون المسطرة المدنية.

الفقرة الرابعة : وضع المحكمة يدها تلقائيا على القضية

من المعلوم ان المحكمة تتقيد بالمقال الإفتتاحي للدعوى و طلبات الخصوم المقدمة أثناء سريان الدعوى ، بحيث يسيطر الخصوم على الخصومة  ومن ثم فالأصل أن القاضي لا يمكن ان يضع يده تلقائيا على القضية فهو يحل النزاع و لا يخلقه . لكن نجد لهذه القاعدة استثناء في مادة صعوبات المقاولة ، إذ أتاح المشرع للمحكمة أن تفتح مسطرة معالجة صعوبات المقاولة تلقائيا متى توفرت لها المعلومات الكافية عن وضعية المقاولة المالية. وذلك بمقتضى المادة 563 من مدونة التجارة، لارتباط مادة صعوبات المقاولة بالنظام العام الاقتصادي نظرا لما تحققه من حماية لمختلف المصالح سواء تعلق الأمر بالمقاولة المتوقفة عن الدفع ذاتها أم بالدائنين الذين لهم عليها ديون غير مؤداة أم بالعمال الذين يشتغلون بها. و بالتالي فإن مجال تدخل المحكمة التجارية تجاوز ذلك الاختصاص التقليدي ليشمل تقويم المقاولة اقتصاديا و ماليا و اجتماعيا.

و يرى الأستاذ أحمد شكري السباعي أن التدخل التلقائي للمحكمة يتيح ملأ الفراغ المسطري الناتج عن تقاعس وإهمال الدائنين لحقهم في رفع دعوى فتح المسطرة، و تهرب رئيس المقاولة من واجب طلب فتح مسطرة المعالجة في الأجل الذي أقصاه خمسة عشر يوما تلي توقفه عن الدفع.

و تجدر الإشارة إلى أن هناك حالات يسهل فيها على المحكمة التدخل التلقائي للحكم بفتح مسطرة المعالجة كما هو الشأن في حالة وجود دعوى جارية يقيمها الدائن أو المدين، يتبين من خلالها توقف التاجر عن الدفع، و حالة فسخ الاتفاق المبرم في إطار التسوية الودية إذ يكون قرينة توقف على الدفع. و كذلك حالة وجود عيب شكلي في المقال الافتتاحي للدعوى. و أخيرا حالة تنازل المدعي عن دعواه. إلا أنه باستثناء الحالات السابقة، يصعب على المحكمة وضع يدها تلقائيا على المسطرة، نظرا لكثرة القضايا المعروضة عليها من جهة و ضعف المصادر الاستعلامية التي يمكن أن تزودها بالمعلومات الكافية من جهة أخرى.

لهذا يصعب من الناحية العملية على المحكمة أن تحكم من تلقاء نفسها بفتح المسطرة، فالواقع العملي يعرف قطيعة شبه كاملة بين المقاولة و المحكمة التجارية رغم مسك هذه الأخيرة للسجلات التجارية، و تمركز المنازعات و المطالب أمامها. وجدير بالذكر أن التدخل التلقائي لا يقتصر على المحكمة التجارية و إنما يشمل حتى محكمة الاستئناف التجارية إذ بإمكانها أن تضع يدها تلقائيا على القضية و تتابع الإجراءات رغم كون المستأنف لا صفة له أساسا في التقدم بطلب فتح المسطرة. و هذا ما أكدته محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء.

و قد خول المشرع الملغاشي لمحكمة الاستئناف بمقتضى نص صريح أن تقضي تلقائيا بالتسوية القضائية أو التصفية عند إلغاء الحكم المستأنف.

إذن يتضح مما سبق أن لمبدأ حياد القاضي عدة استثناءات خاصة في المادة المدنية، لكن ينبغي التعامل معها بحذر لكي لا تطغى على القاعدة فيصير الاستثناء قاعدة و القاعدة استثناء، ويستحيل حياد القاضي مبدأ نظريا صرفا و قاعدة محصورة بين صفحات الكتب ونصوص التشريعات ....فتخرج إلى المحاكم مثقلة باستثناءات و تفسيرات وتبريرات تفرغها من مضمونها وتجردها من هدفها و غايتها .
 



الخميس 23 يوليوز 2015

تعليق جديد
Twitter